محنة الإبداع الأليمة في عمل أول وذاكرة تائهة

  • 9/2/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

اعتادت السينما المغربية أخيراً أن تحمل بعض المفاجآت الطيبة. وها نحن هنا أمام مخرج سينمائي شاب تسكن خياﻻت الفن السابع ذهنه، حمل فكرة تبدت له بحكي شيق وصور متحركة خاصين، واﻷهم أنها انطرحت له تخييلاً بصرياً، فقرر المغامرة وإخراج فيلم لوضع ذلك كله في اﻹطار الصحيح المتعارف عليه، فكانت قطعة «ميلوديا المورفين» الشيقة. بلا دعم من جهة رسمية، بل بالوسائل المتاحة والكثير من الحماس الشبابي المتوقد واﻹرادة والتصميم. هي إحدى طرق اﻹبداع التي تبدأ متهيبة لكن ما تلبث أن تكسر اﻷبواب وتعلن عن قريحة حقيقية.   ذاكرة مكلومة الملاحظ أن المخرج لم يختر السهولة الموضوعاتية في بدايته هاته كما هو منتظر ممن هم في سنه. فعمله يتحدث عن شخص اسمه سعيد الطائر (وللاسم دلالته الواضحة) فقد ذاكرته إثر حادثة سير مفجعة، وهو ما يمنح الشريط حيثياته. وبعد أن يفتح سعيد عينيه حاول أن يستعيدها، أي أن يستعيد حياته الماضية بكل بساطة. أليست الحياة هي ما تختزنه الذاكرة وبالتالي تقرر السلوك الفردي؟ فعلاً، وهكذا تصير هذه الاستعادة هي مساحة حكي الشريط. مراوحة بين الماضي الغائب والحاضر الغريب، صراع ذات بجسد تبحث عن قرصها الصلب كي تتبرمج من جديد. لكن العودة غير سهلة بخاصة من لدن من يعرفهم عن كثب. بدءاً بزوجته التي تنكرت له. فبطلنا كان في حياته السابقة عازفاً موهوباً وملحناً كبيراً. فناناً رافق هذه الزوجة حتى صارت مطربة ﻻمعة وشهيرة، لكن بعد انحساره القسري، اعتبرت أنه لا يد له في ما وصلت إليه من مستوى فني ومن شهرة ذائعة الصيت، بما أنه في نظرها مجرد فنان فاشل استناداً إلى ما تتبدى عليه حالته الصحية. لكن الشريط وضع أمام أعيننا هذا المشهد القوي حول الوفاء ونكران الجميل عبر صور قوية البوح ومتقنة التركيب والتصوير. ذِكرنا لها هنا، راجع لكون البطل سيكافح من أجل استرداد نفسه بوسائل التطبيب ومراودة اﻷماكن واﻷشخاص المؤهلين لذلك، والشريط يروي كل ذلك بالتفاصيل والتنويع الضروريين، لكنه وهو يلتقي صورة الزوجة على الشاشة الصغيرة، تنعته بالفشل. يتمثل الأمر مثل مواجهة عن قرب وإن بوسيلة صورية، هي بواسطة وسيلة إعلامية جماهيرية، وهو في وحدته في غرفة كالحة رفقة كمان أبكم وجدران كالحة في أضواء تحيل على الانهيار والإحباط لا تزيد مرآة عادية يتراءى فيها إلا من حدتها. هذا التقابل ما بين الافتراضي والواقعي، يشكل علامة من علامات الفيلم. بعد اللقاء المفترض هذا، تبدأ إرهاصات العودة القاسية المتمنعة كما لو قسراً، وتتحرك خيوط وضوح في دماغ «بطلنا»، وتنهض صور وتنثال حكايا قديمة تسحب الظلال من زوايا الرؤية. هي الصدمة الواجبة، وفي مونولوج شخصي يبوح بذلك. وهذا ما سيزيد من إصراره على المضي في مشروعه التذكري، كي يصل إلى حقيقة ذاته المنسحبة من جسدها التائهة في يم من المعالجات والتطبيب والتعالقات الصدامية في الغالب. الفيلم يلعب هنا على الدق العنيف في العين، عين الممثل كما عين المشاهد، بهدف التأثير الإيجابي الحاث على الانخراط.   ... وإبداع مكلوم لكن الأساسي الذي يمنح الشريط جاذبيته الخاصة، هو عدم تركيزه على معطى الذاكرة إلا كموتيف للغوص في ما يتجاوزها، أي الوصول إلى الاكتمال الذاتي السالف الذي سمته السعادة أو ما يماثلها قبل الوقوع في الهوة. أي كموتيف لرصد اﻷلم الذي يحدثه فقدانها، وهو ألم يتيه بين موجودات وأناس يستطيع البطل سعيد الطائر تَعَرُّفَها تدريجياً. ما يركز عليه المخرج هو الاستعادة شبه المستحيلة للإبداع. مقابل أن رجوع الذاكرة الذي يعني عودة الجسد إلى ميكانيكيته المعتادة أمر ممكن، بل وسهل حتى، بفضل العلاج والصبر وتطويع الزمن. سعيد الطائر يجد قسوة كبيرة في ملامسة نشوة اللحن وخلق موسيقى أخرى. ليؤكد أنه فعلا مبدع حقيقي مر من مرحلة محو موقتة خارجة عن إرادته. نتتبعه وهو يصعد كل المثبطات ويجابه كل النظرات غير المتفهمة، وبخاصة الرد غير المباشر على مزاعم الزوجة. لكن ليس هذا وحده ما يلاحظ، بل إن توالي اﻷحداث يجعلنا نقف على حقيقة صارخة تتجلى في اﻷلم اﻵخر: أن تكون مبدعاً من جديد، أن يرتبط الجسد بتعلة وجوده التي تلخصها الموسيقى. هي معركة أخرى ﻻ يكفي معها الوقوف على القدمين بعد المعالجة. هنا يقترح المخرج مَخرجاً مثيراً للاهتمام عبر شخصية ثانية قوية الحضور بألم مختلف. البطل سعيد الطائر يقطن رفقة أبيه في مساحة ضيقة. اﻷب مريض يعاني من تبعات السرطان. يتصاحبان معاً في بحر المعاناة القاسي، ما يشحذ قريحة البطل العازف الذي سيجد في تضور والده أمام عينيه ولصق جسده هو القدرة على اﻹبداع مرة أخرى. تنفتح له في مأساة حميمية قنوات الإبداع. الجميل، إن هذه اﻷنانية المعروفة لدى كل المبدعين ستؤرقه ولن تدعه ينعم بالهناء على رغم نشوة الخلق المسترجعة. وخز ضمير قوي يطاول وقائع الشريط في مجمله مانحاً طرحاً فكرياً يعلي من شأن موضوعه. ولكي يبدو ذلك جلياً، تخترق الشريط مقطوعات الموسيقى الكلاسيكية المعلّمة أساساً جلّ مشاهد الفيلم، ما يمسه بمسحة فنية تروم التعالي. هذا باﻹضافة إلى تضمينه العديد من اﻹشارات الفنية من ريبرتوار الفن السابع العالمي. لدينا هنا فيلم أول مثل كل البدايات، ينشر كل معرفته السابقة، يقول الشيء الكثير، ويقول إن صاحبه قادم من الثقافة السينمائية ومن الكتابة السيناريستية. اعتمد على باطن الشخصية وصراعها الذاتي وعلى المونولوغ كإحدى آليات السرد والتسنيم. ولكنه عمل ليس من السهل التمكّن من تيسيره في حكاية صعبة بصور تنزع نحو العمق شكلاً ومضموناً، لكن المشاهدة تخرج المتفرج رابحاً في كل اﻷحوال. هناك هنات، وتوجد عثرات لكنها لا تدوم أمام قوة اﻹحساس العام بالعالم الحكائي المنقول الذي تفوق فيه المخرج. ومن الجدير الإشارة اليه هنا انه كان للممثل هشام بهلول دور محدد وصارم في نجاح التجربة. والعجيب الغريب المثير أن صديقنا الممثل سيتعرض لحادثة سير مفجعة نجا منها بأعجوبة بفضل اﻷلطاف اﻹلهية. حادث تتبعه المغاربة وقلوبهم في أيديهم، حزناً وكمداً، ثم حمداً وامتناناً بعد عودته سالماً. لقد انتقل من دوره التشخيصي المختار ليجد نفسه في قلب الدور حياتياً. حكاية فيلم طيب وحكاية واقعة تتحدى التصوّر مهما كانت قوة إيحائيته، التقيا في بوتقة مليئة بالكثير من العبر... وذلكم هو الفن السابع.

مشاركة :