في زاوية تقع في أقصى ردهة الفندق نشب جدل لافت للانتباه بين اثنين من الشبان الليبيين أحدهما طويل والثاني قصير. يقع الفندق قرب مطار القاهرة الدولي. وتجري الاستعدادات لاستقبال عدد من القادة السابقين للاحتفال بالذكري 47 لـ«ثورة معمر القذافي»، التي يحل موعدها اليوم، الأول من سبتمبر (أيلول). الشاب الطويل يريد أن يضع العلم الأخضر الذي يرمز لعقود من حكم النظام السابق، فوق الطاولة. والثاني يحاول إقناعه بوضع علم أبيض بـ«لون الحياد» إلى جواره. أما علم «ثورة 17 فبراير (شباط) 2011» الملون، ذو الهلال والنجمة، الخاص بالدولة الجديدة، فلا وجود له هنا. تعرف «ثورة القذافي» في عام 1969 لدى أنصاره، باسم «ثورة الفاتح». وينظر إليها خصومه، حتى الآن، على أنها كانت مجرد «انقلاب عسكري من ضابط أرعن». وانطلقت حركة القذافي من مدينة بنغازي التي انتهت إلى أنقاض بعد أن خربتها الحرب الأهلية طوال السنوات الخمس الأخيرة. ومنذ بداية نظام حكمه، حتى نهايته، ظهرت نظريات للقذافي حيّرت العالم، مثل «الكتاب الأخضر» و«النظام الجماهيري» و«الشعب المسلح»، وغيرها، مع تذبذب واضطراب في العلاقات بين الدولة الليبية وباقي دول العالم. مرت كل هذه السنوات. وفي النهاية تحولت مدينة أخرى مهمة، هي سرت، التي ولد فيها القذافي، عام 1942. ولفظ فيها أنفاسه الأخيرة في 2011 إلى ساحة لحرب ضارية تشارك فيها الولايات المتحدة الأميركية لطرد تنظيم داعش منها. ومن بيته المطل على نيل القاهرة، يقول أحمد قذاف الدم، ابن عم القذافي ومبعوثه الشخصي لعشرات السنين، لـ«الشرق الأوسط»، إن الزعيم الليبي الذي حكم طوال 42 عاما، كان يعلم أنه لن ينتصر أمام ضربات حلف الناتو الداعم لانتفاضة 17 فبراير المسلحة. وفي ركن بيت قذاف الدم يوجد أيضا علم أبيض صغير فوق الطاولة. لقد ظهرت الفكرة قبل عدة شهور. وترمي إلى دعوة الأفرقاء الليبيين إلى نبذ خلافاتهم وحروبهم، ونسيان علم القذافي الأخضر مع طي علم فبراير الملون، والجلوس حول علم جديد محايد يلتف حوله الخصوم للبحث عن طريقة لإنقاذ الدولة من الضياع. لكن هذه الأيام، حيث استمر التحضير للاحتفال بذكرى «ثورة القذافي»، كان اللون الأخضر في عدة بيوت ليبية في القاهرة، في المقدمة. تراه يرفرف جوار أكياس الحلوى وأضواء الشموع. «التشدد والتعصب» في موالاة القذافي ما زال السمة الغالبة على جيل مبعثر بين المنافي منذ سقوط النظام السابق، خصوصا في دول الجوار. وفي المقابل هناك جيل «فبراير» الذي يرفض معظمه أي محاولة للتفاهم مع القادة السابقين. رغم هذا انتقلت فكرة رفع العلم الأبيض إلى شوارع طرابلس، وذلك حين ظهر في أيدي عدة مئات من المتظاهرين يدعون للسلام، إلا أن زعماء الميليشيات ردوا عليهم بالرصاص. طوال عقود من الزمن لم تكن أرفف أي مكتبة في ليبيا تخلو من نظريات القذافي. فماذا تبقى منها اليوم؟ أين الكتاب الأخضر؟ وأين الفكر الجماهيري؟ وأين الشعب المسلح؟ وأين اللجان الثورية؟ ويجيب قذاف الدم قائلا إن «ما تتحدث عنه هو فكر إنساني صاغه القذافي في كتاب يرمز إلى رؤية الإسلام في الحكم ونظام الشورى.. أي المؤتمرات التي تشمل جميع الناس منذ سن البلوغ.. ويمنع فيه الاستغلال والعسف، إلى غير ذلك». ويضيف الرجل الذي يوصف بأنه كان من أهم المقربين من ابن عمه، إن القذافي رحل لكن «فكره يبقى لدى أتباعه ومريديه يكبر كل يوم». ومثلما كان يفعل القذافي تقريبا، يصف قذاف الدم «الديمقراطية الغربية» بأنها مسرحية، مشيرا إلى «عزوف الناس (في الغرب) عن المشاركة فيها، و(انتشار) التزوير والبازارات الاستعراضية (للانتخابات) في أميركا»، ويقول إن حكام الغرب «تأتي بهم الشركات وأصحاب المصالح والحكومات الخفية والماسونية العالمية.. وتلك الأزمة الحقيقية». يعتقد قادة سابقون في نظام القذافي أن الرجل تعرض طوال فترة حكمه لحرب نفسية لتشويه صورته بوصفه زعيما في شمال أفريقيا، منذ ظهوره في أواخر ستينات القرن الماضي. وحين تجلس وسط تجمعات لليبيين اللاجئين في مصر، على سبيل المثال، وتفتح باب الحديث عن الحرب على «داعش» في سرت الجارية الآن، تجد ردودا تعود بك إلى خمسين سنة ماضية عن «المؤامرة الدولية على ليبيا»، وعن ألوف القتلى الذين سقطوا من أبناء هذا البلد منذ الانتفاضة ضد حكم القذافي. أما «الثورة» التي قام بها القذافي نفسه ضد نظام الحكم السابق عليه: «فلم يسقط فيها قتيل واحد»، كما يتذكر قذاف الدم. ويزيد موضحا: «لقد قام القذافي بواجبه في قيادة ثورة للشعب الليبي. لم يسقط فيها قتيل واحد.. طردت الثورة القواعد الأميركية والإنجليزية وبقايا الطليان الفاشست. ولو لم يفعل القذافي غير ذلك، لكان دَينًا في أعناق الليبيين الأحرار، ولن تستطيع هذه الآلة الإعلامية الأجنبية والحرب النفسية أن تسقط صورة الزعيم في أعين الليبيين الأحرار أو العرب والمسلمين والأفارقة». لكن البعض يرى أن 42 عاما من حكمه، وما شهدته هذه الفترة الطويلة من تجارب سياسية مع العرب ثم مع الأفارقة، ودول أخرى، أنهكت ليبيا وجنت على فرص أخرى للإصلاح السياسي والاقتصادي في الداخل. بيد أن قذاف الدم يرد قائلا إن القذافي كان «صاحب قضية»، وكان يريد «وحدة الأمة». ويضيف أنه عندما أصاب اليأس القذافي من الموقف العربي «اتجه لمحيطنا الأفريقي الذي ساهم في معركة تحريره. وقاد معركة الوحدة (الأفريقية) لنقارع جيراننا في الشمال (الاتحاد الأوروبي)». لكن الأمور بدأت تتغير في سنوات حكم القذافي الأخيرة. فقد ظهر على المسرح السياسي الليبي، لأول مرة، وجه جديد، هو نجله، سيف الإسلام، من خلال مشروعه الإصلاحي المعروف باسم «ليبيا الغد». هنا بدأ بعض المحيطين بالقذافي ممن يطلق عليهم «الحرس القديم» يحاولون كبح جماح الشاب ذي النظارات الطبية والرأس الحليق. إلا أن تحركات سيف الإسلام كانت سريعة، ودخل في مصالحات مع جماعة الإخوان، ومع الجماعة الليبية المقاتلة. وأخرج قادة تيارات دينية متشددة من السجون وجلب منفيين ومطاردين من الخارج. وأشرف على «مراجعات فقهية» للبدء في مرحلة جديدة لما بعد «جيل ثورة الفاتح». ومع ذلك يقول بعض قادة أنصار النظام السابق، إن ليبيا كانت، رغم كل شيء، دولة آمنة مطمئنة، مقارنة بما يحدث هذه الأيام. ويقر أحد هؤلاء القادة بأن المتغير الذي حدث في السنوات الأخيرة من حكم القذافي يتعلق بظهور جيل ليبي تعلم في الغرب، ولا يحلم أحلام «جيل ثورة الفاتح». الجيل الجديد «كان منبهرا بتجربة الغرب وهو شكل لا ينطبق علينا». ومن جانبه يقول قذاف الدم: «نعم.. لنا خصوصية اجتماعية، ودين مختلف، وعادات وأعراف، والكل كان يطمح للأفضل. وإنما بإيقاع مختلف». وهو يرى أن سقوط نظام القذافي ما كان ليحدث لولا تدخل حلف الأطلسي (الناتو). يقول أحد شعراء ليبيا الشعبيين، وهو نصيب السكوري، في قصيدة يتغنى بها في احتفالات القبائل، ما معناه أن ما حدث لليبيا جاء ضمن عاصفة ضربت العراق في 2003، ثم اتجهت إلى تونس ومصر في 2011، وبعد ذلك بأيام هبت على ليبيا «ونحن لا جهد.. لا حيل». أي من دون أي استعداد أو قدرة على استقبال هذه المتغيرات الصعبة. ويقول شاعر آخر عن حال البلاد اليوم مقارنة بما كان عليه في عهد القذافي، ما معناه أن البلاد «ابتليت بذئاب أكثر ضراوة من الذئب السابق». وأيا ما كان الحال فإن الحقيقة التي تتجلى على أرض الواقع تبدو شديدة المرارة. فمنذ 2011 حتى اليوم لم يتوقف صوت إطلاق الرصاص في شوارع المدن الليبية. وما زال الشبان صغار السن يسقطون في مواجهات دامية. ويقول قذاف الدم إن المجتمع الدولي أخطأ بشأن ليبيا والعرب عموما.. «حلف الناتو جند نفسه، ليس من أجل الحرية والديمقراطية، وإنما استخدم ظرفًا تم إعداد ساحته من بغداد إلى طنجة ونفذه تحت غطاء الربيع العربي الذي دمر 4 جيوش عربية؛ العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا.. وشرد أكثر من 14 مليون مواطن عربي وقتل 3 ملايين ومع خسائر أكثر من 900 مليار دولار. وأعاد هذه الدول للعصر الجاهلي». في مناقشات حامية على هامش الاستعداد للاحتفال بذكرى «ثورة القذافي»، طرح أحد القيادات السابقة سؤالا عما إذا كان يمكن تجنب التداعيات التي أدت في النهاية إلى إشعال بعض المجاميع المسلحة للشارع الليبي في 17 فبراير، ومن ثمَّ تدخل «الناتو» لضرب أسس الدولة خصوصا الجيش. وهل كانت هناك مبادرات للحل لم يكشف عنها من قبل؟ لكن يبدو أن الإجابة المعتمدة هنا هي تلك التي جاءت أخيرا على لسان الرئيس الأميركي بارك أوباما، حين صرح منذ نحو شهرين بما معناه أن أحد الأخطاء هو إسقاط النظام في ليبيا دون إيجاد بديل. ويتذكر قذاف الدم تلك الأيام الصعبة في تاريخ ليبيا، قائلا إن الدول الغربية رفضت كل الحلول الإيجابية، وأصرت على رحيل القذافي «بما يريد وبكل الضمانات وبمن يريد». ويضيف أن القذافي أصر على البقاء، وأنه قال إنه يعرف أنه لن ينتصر على هذه الدول، و«إنما علينا أن نقوم بواجبنا وألا نورث العار للأجيال القادمة». وينفي ابن عم القذافي ومبعوثه الشخصي ما يردده بعض القادة الليبيين هنا عن أن «العقيد الراحل تعرض للخيانة من بعض المحيطين به أثناء أحداث فبراير». ويوضح قائلا: «لو كانت هناك خيانة لسقط النظام من الأسبوع الأول». ويضيف أن «المعركة كانت طويلة، وعزائم الرجال ليست على المستوى نفسه. ولم يعد هناك إمداد وذخائر أمام 40 ألف غارة و17 قمرا صناعيا و4 أساطيل لدول عظمى مع حدود مستباحة من مصر حتى تونس، حيث كان النظام في هاتين الدولتين قد تعرض للانهيار، وأصبح المرتزقة يتدفقون مع السلاح ومع الحرب النفسية». ويتابع قائلا: «لعل الحقائق التي تظهر كل يوم تثبت أن نسبة الفاقد في ليبيا لا تقارن بما تحقق بعد 2011، فعندما يغادر الوطن ثلث السكان، أي 2 مليون من أنصار القذافي، وعندما يتم أسر 40 ألف مقاتل، وسقوط 30 ألف شهيد. وعندما يتم عزل نصف مليون مسؤول ستعرف الحقيقة. هذا لا ينفي أن هناك عملاء تم تجنيدهم على مدى سنوات شكلوا طابورًا خامسا ويعرفهم الليبيون وجميعهم اليوم خارج الوطن بعد أن اكتشف الشعب حقيقة مهمة هؤلاء». ولم تخرج أي إحصاءات رسمية من جانب أي جهة عن الخسائر الاقتصادية الحقيقة التي تكبدتها هذه الدولة النفطية نتيجة إسقاط نظام القذافي. لكن قذاف الدم يقول إن «بلاده خسرت أيضا مئات المليارات من الدولارات.. وجرى نهب أطنان من الذهب، وإهدار ثروات نفطية، وتدمير البنية التحتية، وتخريب مصانع ومشاريع، وقتل عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال.. وأسوأ من كل ذلك هو هدم النسيج الاجتماعي والإهانة التي لحقت بليبيا». رحل القذافي. وحتى الآن لا يُعرف مكان لقبره. فقد جرى دفنه بشكل سري. رحل وترك وراءه أسئلة عن مصير أنصاره ومستقبل بلاده. أسئلة تكبر يوما بعد يوم في عيون من لديهم مقدرة على التكفل بالعيش في المهجر، وفي عيون مئات الآلاف المبعثرين بلا سند مالي في دول مثل مصر وتونس. فأين تقيم قيادات النظام السابق في الوقت الراهن؟ وما عدد الموجودين في السجون داخل ليبيا من هذه القيادات حتى الآن؟ وما عدد من هم في الخارج؟ وهل شارك أي من قيادات النظام السابق في الحوار الذي ترعاه الأمم المتحدة وأنتج المجلس الرئاسي بقيادة فايز السراج؟ لقد قتل عشرات من القادة الكبار مع القذافي في طرابلس وسرت وغيرهما، ومن أشهرهم رفيقه القديم وقائد الجيش، الفريق أبو بكر يونس. ويضيف قذاف الدم قائلا: «لدينا الآلاف في السجون حتى هذه الساعة، وهناك قيادات في الداخل (الليبي) في مواقع آمنة، وكذلك في مصر وتونس وبعض الدول الأفريقية». وعن مشاركة أي من أنصار النظام السابق في حوار الأمم المتحدة بشأن المصالحة في ليبيا، يوضح: «لم نُدعَ لحوار الأمم المتحدة، لأن وجودنا سيقلب الموازين.. نحن الرقم الصعب في المعادلة السياسية، ونحن الأغلبية، وهذا سيحرج الدول الاستعمارية التي تريد أن تصنع من فبراير مبررا لاستمرار تدخلها في ليبيا». وفي المقابل يشارك كثير من أنصار النظام السابق في جولات للحوار مع خصوم ليبيين آخرين بعيدا عما تقوم به الأمم المتحدة. تجري بعض هذه اللقاءات في الداخل الليبي والبعض الآخر في بلدان مجاورة. ويقول قذاف الدم: «توجد حوارات ليبية أخرى نحن ندعى إليها، ونشارك فيها بفاعلية، ونعمل على حقن الدماء وندعو لحراك جديد تحت راية بيضاء للسلام، وقيام دولة جديدة دون إقصاء أو تهميش لأحد وتجاوز كل هذه الآلام والجراحات وتقديم التنازلات لأن الوطن يضيع. وسوف ننجح في صنع فجر جديد للوطن». اهتمام أنصار النظام السابق بالتطورات الجارية في مدينة سرت ليست من فراغ. فهي مسقط رأس القذافي، ومكان مقتله. وتشهد المدينة منذ نحو ثلاثة أشهر قتالا شرسا لطرد تنظيم داعش منها على يد قوات «عملية البنيان المرصوص»، التي ينتمي غالبية عناصرها لمدينة مصراتة المجاورة، لكن أين أبناء سرت أنفسهم من هذه الحرب؟ يقول قذاف الدم: «عندما دكت غارات الحلف الأطلسي سرت في 2011 وفتحت الأساطيل حممها عليها، استشهد كثير من أبنائها وبناتها وتم أسر من بقي من الشباب، وهاجر منها أهلها، فاستغلت مجموعات المرتزقة (يقصد داعش) هذا الفراغ وسيطرت عليها. واليوم تقوم حكومة الميناء (يقصد حكومة السراج) المدعومة من الغرب، بحرب وقودها أبناء الليبيين بحجة تحرير سرت، ولعلك تندهش عندما تعرف أن طيران الغرب قتل من أبناء مصراتة أكثر مما قتل من (الدواعش)». وما بين الماضي والحاضر تثور أسئلة قديمة عن أخطاء القذافي، وأسئلة جديدة عن مستقبل المصالحة والتوحد ضد الجماعات المتطرفة. ويسود اعتقاد أن هزيمة «داعش» في سرت لا تعني نهاية وجود التنظيم في عموم البلاد. ويقول قذاف الدم إن «(داعش) فيروس أطلقه الغرب، وروج له، ودعمه. التنظيم يقوم بحرب بالنيابة لتدمير الدول الإسلامية». وعن أبرز أخطاء العقيد الراحل يوضح: «القذافي كان قائدًا عظيمًا وأخطاؤه أيضًا». وفي الجانب الآخر من العاصمة المصرية كان عدد من الشبان الليبيين يواصلون الجدل في ردهة الاحتفال حول جدوى وضع «علم أبيض» بجوار العلم الأخضر. ومع غياب علم الدولة الملون، يبدو أن طريق المصالحة، في مرحلة ما بعد القذافي، ما زال طويلا.
مشاركة :