في سورية لا توجد ثورة واحدة بل ثورات عدة، فهناك ثورات إسلامية، سنية وشيعية، وثورة كردية، وهذه الثورات خلقت نُخباً حاكمة تسيطر على الجغرافية السورية. ومصطلح ثورة لا يطلق فقط على الثورة التي تحمل معنى إيجابياً، بل هي اصطلاح يطلق على تغيير الحالة السياسية في شكل جذري في بلد ما، سواء كان هذا التغيير رجعياً أو تقدمياً. ولا شك في أن اللحظة الثورية التي أشعلت كل هذا بدأت في الخامس عشر من آذار (مارس). هذا هو الحدث الثوري الأول الذي لم ينجح في أن يؤطّر نفسه ضمن حراك وطني غير مؤدلج، فما لبث أن صار عقائدياً أنتج حراكات مؤدلجة تأخذ من مناهضة الأسد شرعية وغطاء لها ولثوراتها وفلسفتها في الحكم. اليوم، وبعد مرور ست سنوات على اشتعال الثورات السورية، نجد أن الثورة كحالة تغيير جذري تظهر في كل مكان، فالنظام السوري تغيرت وجهته الظاهرية من الوطنية إلى العلوية والشيعية، فبات من الطبيعي أن ترى رموزاً أساسية في النظام مثل العميد في القصر الجمهوري علي خزام يفاخرون بعلويتهم، في الوقت الذي كان النظام يحافظ وبشدة على مظهره المتسنّن قبل 2011، مع ما يعنيه هذا من تغيير حقيقي لظاهر النظام. وهذا إضافة إلى تمكين حزب الله الشيعي من تحريك مفاصل مهمة في دولة «سورية الأسد». هناك مدن وأقاليم سورية تعيش في حالة اختلاف جذري عما قبل 2011. فمحافظة إدلب وريف حلب الغربي يعيشان طقوس الإمارة الإسلامية حيث تمارس الشريعة بنسختها القاعدية، وسكان الرقة والدير يعيشون في ظلال الخلافة، إضافة إلى جيوب صغيرة أخرى يعيش سكانها تحت نظم لا تختلف كثيراً عن القاعدة. هناك تغيرات رجعية على غالبية الأراضي السورية، فالنظام بات أكثر علوية، ومعارضوه من العرب أكثر سنية. الاستثناء الوحيد كان في الحراك الكردي الذي يقوده حزب كردي لا تخفى شموليته وممارسته الإقصائية، لكن تقدميته كردياً وسورياً ظاهرة أيضاً. فبين أنظمة الحكم الفاعلة في سورية، يظهر نظام الإدارة الذاتية المعروف باسم «فيديرالية شمال سورية» كأكثر الأنظمة القائمة انفتاحاً وقابلية للتغيير، كما يتمتع بشعبية لا يستهان بها. صحيح أن معارضيه يشبّهونه بسلطة الأسد لكن التشبيه ظالم وغير واقعي، فأكثر ما ترتكبه سلطات الإدارة الذاتية هو بعض الاعتقالات، وإغلاق مكاتب الأحزاب الكردية غير المعترفة بنظام الإدارة القائمة نتيجة التجاذبات مع سلطة إقليم كردستان العراق، والتي تعيب على نظام الإدارة عدم قوميته وعدم إيمانه بالدولة القومية التي تؤمن بها الأحزاب الكردية التابعة للإقليم. وهو رفع من دور المرأة وسن القوانين الحامية لها كالميراث المتساوي بين الجنسين، وحظر تعدد الزوجات بالإضافة إلى وجود المرأة في مناصب قيادية، ناهيك عن أن المختلفين دينياً محميون في ممارسة طقوسهم وعاداتهم. ولعل الجانب الأهم هو الإدارة النزيهة للموارد والثروات، ففي مناطق نفوذه، تؤمَن المحروقات بأسعار زهيدة، كما أن البلديات والقضاء مؤسسات غير فاسدة تتابع أعمالها بشفافية. بكل تأكيد، لا يمكن أن تكون التجربة مثالية، فهي تعاني من الأخطاء والظروف المحيطة، إلا أنها التجربة الوحيدة التي تستند إلى فلسفة حكم شاملة، ذات أبعاد تقدمية، غير رجعية كحال فلسفات الحكم الشاملة الأخرى كتلك التي تتحكّم بداعش والقاعدة والنظام السوري. تجربة الإدارة الذاتية تجربة تدرّس، وعلى السوريين المعارضين الاستفادة منها والنظر إليها بمعيار سوري، وليس بمعيار أردوغاني كما الحال اليوم. فلا يمكن إنكار وجود علاقة بين نظام الإدارة الذاتية ونظام الأسد، إلا أنها علاقة ندية بلا تبعية، كعلاقة حزب الله بإيران، أو الائتلاف بحكومة أردوغان. إنها علاقة مصالح يشرحها الكثير من التصادمات التي حصلت بين الطرفين. فأي منهما، في العمق، غير سعيد بقوة الآخر. وبإمكان المعارضة السورية الاستفادة من دعوات عدة وجهها قياديون من الكرد السوريين من أجل العمل معاً لبناء سورية ديموقراطية تعددية من داخل مناطق نفوذ نظام الإدارة. وقد تتمنى المعارضات السورية الدينية المعتدلة وغير الدينية واقعاً افضل لها، لكن الحقائق على الأرض تظهر أن الموجود هو نظام الأسد، ونظم إسلامية تكفيرية تنازع الموت، ونظام الإدارة الذاتية الذي يشكل الأكراد عموده الفقري. هذا الأخير ينطوي بالطبع على مشاكل، لكنه قابل للحوار والحياة والعيش المشترك، ويبدو أنه النظام الوحيد المتبقي والمتمدد. * كاتب سوري
مشاركة :