لعاب الضفادع انتشر بغزارة في حارات الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي، وأخذ يقمع ويُقصي من يشاء ومن لا يناسبه في الهوى والرؤى وشكل القصيدة؛ مستظلاً بحجج الطيبين الذين يريدون حماية دينهم من جائحة كما زعموا أو زُعم لهم.. هنا كابول ورباني وبانشير وأحمد شاه مسعود، وبقية أيقونات القداسة المُهيمنة في عصر الاختلال التي تعلو ولا يُعلى عليها، ولها وحدها السوق والكلمات المستطابة، وويل لمن يحاول زحزحة سائدها وفضح قشورها ولو بسرديات مكتومة في ملحق ثقافي، أو أمسية شاعرة دون شعراء يرتبون مائدة نور على صدر سحابة؛ في ذلك الوقت بدت الحداثة وطناً مستنيراً لمن يبحث عن عقول واثقة الخطى فوق صخور مهتزة لا تنبت العشب ولا الأفكار ولا تسمح بقراءة السبورة بأكثر من عين؛ الجمادات التي واجهت الحداثة بالمخرز والمسحاة والقدوم حاولت حصرها في مستنقع تهم تغدو وتروح بالريموت كلما حركته فاح في وجهك واستطال بعذله وصفاقته.. لقد كان عصراً كاملاً كُرس بطيبة زائدة وربما بخبث أيضاً لإلغاء الفردانية وحق الإنسان الطبيعي في رؤية العالم من خلال عينيه لا بعيون الآخرين!! المهيمنون القادمون بقوة آنذاك أخضعوا البلد ثقافياً لتصوراتهم المرتبكة عن الدنيا والناس؛ كانوا سطحيين أكثر مما يسمح به غموض العصر وتحتاجه أبجديات الأنسنة، ولذلك لم يرضوا أن يكون المثقف سعيد السريحي دكتوراً ينافس دكاترة القص واللصق وتحقيق المخطوطات بمكبر بدائي الصنع؛ فالمنافس الذي يأتي مُهذباً/ مُثقفاً من أعلاه إلى أسفله بالحضارة والانفتاح الواعي يُعتبر خطراً ماحقاً على لفائف الكتان، وقنبلة موقوتة من الممكن أن تنفجر فجأة في وجه أي خروف مفطح يستعد لنصرة الأمة بتبديع وتفسيق نصفها العاقل، ولذلك أرادوا تجريده من الدرجة العلمية بعد أشهر من حصوله عليها، واستتابوه عن حب ليلى بخطاب، ونصحوه إن أراد الحياة أن يتوقف فوراً عن مواعدة القصائد بعيداً عن إشراف مولانا الخليل؛ فبقي على عكس ما توقعوه وتمنوه مجرداً من الهبل المبكر والاستعباط على كل منبر.. بدايات الحداثة كانت أشبه بالذهاب إلى سهرة موسيقى فاخرة دون ارتداء كمامات واقية لمن يدوخون سريعاً من قوة انبعاث العطر، وحينما همَّ العازفون ببدء اللحن اكتشفوا أن الربو قد احتل كامل الصالة، وأن المحرقة قد هُيئت للموسيقار بسبب جريمة لم يرتكبها، ويا له من جسور من يستطعم البوح في مجاورة الحرائق.. أهمية سعيد السريحي أنه بقي شامخاً برغم الوجع وشدة الحصار، وأنه -على غير المتوقع وفقاً لذاك- استطاع نيل العشاق والمعجبين والطلاب دون شهادة دكتوراة أو تزكية مشكوك في صحتها من إمام جامع، وقد أدى هؤلاء الطلاب والعاشقون للأفكار المحترمة الفارق المطلوب لزمنهم، وصدعوا بما قاله الأستاذ في مراحل متقدمة دون نسيان المزارع الأول، وحامي العصافير الملونة من جبروت الصياد، وما أحلى الاستفاقة حينما تأتي على شكل وطن، وشباب حالمين لا يستسلمون للهمهمة، وما تُحدثه من محاولات بائسة لتكريس الإثم. أخيراً؛ قمة الجسارة الثقافية أن تقاوم محاولات النفي والإلغاء والتهميش، وأن تعزف مقاماتك النشوى دون أن تلتفت لحالات التبرم، وأن تستنبت الوعي من الزاوية التي تقتنع أنت لا سواك بأنها الأكثر إشراقاً وبهاء، وأن تفعل دائماً عكس ما يريده المستمعون، وأن يبقى المستمعون أبداً يستمعون.. الجمعة القادمة: شيخ غاب ثم عاد ليكتسح
مشاركة :