الغياب في مقامات بغدادية لحميد سعيد منال البستاني الحزن بفضاءات مفتوحة يوحي شكل القصيدة بالهزات النفسية والذبذبات الموسيقية والمعاناة الداخلية التي تتجلى من خلال الحوادث الخطيرة والذكريات المؤلمة ومآسي طرد وتهجير من المكان الأم وكوارث ومشاهد الموت العنيف والاغتصاب وكلها من صنع أمريكا ، فالشعر والفن هما شاهدا عيان على كل ما جرى وما يجري في العراق . تألقت القصيدة بالألم الانساني ودفء الرومانسية وميتافيزيقية الماضي والذكريات والنبرة المشحونة بالاستفهام الذي يشكل فاعلية ونشاط في النص،. يضفي عنوان القصيدة ” مقامات بغدادية ” تأثيرا نفسيا على مشاعر القارئ فالمقامات هنا ليست مقامات بديع الزمان الهمذاني ولا مقامات الحريري المبنية على النقد وابتزاز المال من الناس عن طريق الحيلة والمكر بأسلوب مزان بالسجع والبديع، بل هي مقامات البكاء على وطن يضيع ، كما ان العنوان يستحضر مقام بغداد المرموق في هذا الحقل البهي من الموسيقى ، ويستحضر الأصالة التاريخية والحضارية لبغداد عبر العصور ، في حين ضجت القصيدة بنعوتها التي أضفت على أمريكا ملامح مميزة من القبح فهي لا مقام لها ولا أصول بين الحضارات التاريخية ، وحديثة عهد بالنعمة ، وتشير مفردة ” الأقنان ” في القصيدة إلى أن أمريكا ذات أصول لا تنتمي إلى فئة الأحرار من الناس ،إنها دولة القنص والقناصين اي الانسان العدو القادم من “غاب أكاذيب سود..” المتخفي ليلا يترصد بالجمال لاغتياله . إن الشاعر من شدة اللوعة لا يتوانى عن تشبيه لغة أمريكا بالخرقاء التي لا تأبه بعواقب الأمور كما إن لغة الجندي الأمريكي شديدة المرارة كنبات “الحنظل” ، وذات طعم غير مستساغ تشعرنا بغصة وألم مضن ، والصور الشعرية الكامنة في القصيدة تبطن اللغة الصفراء المسمومة لأمريكا ، فهي “الأحناش” ذات قرابة مع العقارب والقراد والعناكب والخنافس والأفاعي ، وهي البرغوث الذي يقتات على دم الانسان ويقرص الروح. والشاعر ما بين شك ويقين وغياب وحضور يبوح بالحالة النفسية السيئة والظروف الصعبة للعراق الذي أوقعته أمريكا في فخ خيوطها العنكبوتية وجعلته بيئة غير صالحة للعيش. يشخص الشاعر حالة أمريكا بناء على تاريخها الدموي بحالة من الهذيان والهيجان والتشوش الحاد والهلوسة في سلوكها ضد البشرية والمحفزات الكامنة فيها على الغزو والتدمير واستباحة الأمم، كما يصف الجندي الأمريكي ” بالعطن ” أي الفاسد ، النتن الرائحة ، و”الغر” أي الغافل غير المجرب ، كما يصفه بالمريض عقليا باعتقاده الخاطىء أنه قادر على فهم لغة الحضارات العريقة وهو لا تاريخ له وليست حضارته إلا حضارة وهمية ، حضارة تضليل وخيال وهذ ما تشير إليه مفردة ” الوهم “: ماذا سيقول لها هذا الغر القادم من وهم..لا تاريخ له من كذب عطن ..من لغة خرقاء أمريكا فرعون العصر الطاغية ، تتنافي مع لغة العراق ، لغة الماء المنساب، لغة الشعر والفن ولغة الصباح ومدينة الأسفار الكاشفة للمعاني التي تتضمن علوم الديانات والتصوف والزهد ، والعراق لغة دجلة الحرير الذي ازدهرت على مياهه الحضارة السومرية والأكادية والبابلية والآشورية والكلدانية ، في حين أن أمريكا هي الدهماء الناهبة لأموال الدول وثرواتها ، وتشير مفردة ” الناووس ” في القواميس العربية إلى أن الناووس تابوت يصنع من الحجر يلتهم جسد الميت في أربعين يوما وفقا لخصائصه الكاوية ، فالشاعر هنا يلغي عن أمريكا مقام الآدمية . تستحضر القصيدة تكاثفات الشجن وأفول الفرح وأبواب الأمل الموصدة ، ويجول قلب الشاعر في فضاء كارثي يثقل عليه شعور عميق بالغياب: الأبواب مسمرة.. وزقاق كان يراه طريا كبساتين ديالى ماعاد هناك يصف الشاعر بريشة فنان انطباعي شواطىء دجلة التي تضيء الروح في الفجر وتبعد عنها الأحزان ، وبساتين ديالى المدينة العراقية العابقة برائحة البرتقال والليمون والنارنج فتشرق جماليات الألوان بعطورها الكونية ، ولكن القنابل الأمريكية أحرقت هذا الجمال ،هنا يعلو صوت المقامات المبنية على أنغام الحزن، تأخذنا إلى ابتزاز فرح الانسان وحلمه وحتى قوت حياته ، فالمقامات البغدادية تستحضر الزمن الجميل والتراث العراقي و أيام الأعراس والاحتفالات . إن الموسيقى كما يقول أرسطو لها تأثير أخلاقي ، يمكنها تعديل المشاعر والعواطف لأنها قادرة على تمثيلها .لهذا تعزف القصيدة أنغاما صوتية تسبح مابين النغمات العالية والنغمات الواطئة ،والأنين والهزات النفسية ، فالمقامات هي أسمى أشكال الجمال التي تعبر عن الروح إننا لنشعر بأنغامها تنساب صامتة ظاهرة . تنطوي القصيدة على التراسل المتناغم ما بين الأجناس الأدبية والفنية: الحكاية ، التراث والفولكلور ، الموسيقى ،السرد ،الفن التشكيلي ، وأسماء العلم ” فرط الرمان ” ، ” عباس جميل ” ، ” سلمان ” ، والأمثال الشعبية العراقية ” يا أم حسين ، ذهبت بواحد ورجعت باثنين ” فهذا المثل ليس إلا كناية عن العراق الذي ما أن يلملم أحزانه ومصائبه وتلتئم جراحه إلا وتنهال عليه محن أشد من سابقتها ، فأرض العراق المنسوجة بالبساتين وأشجار النخيل والشجاعة والكفاءة جعلته أمريكا وكل قوى الشر المتحالفة معها يخوض في وحول الحرب والدم والمحن الكبرى ، والتصرف في ملك العراق وأراضيه وثرواته وأناسه وإيقاع الأذى بأهله وكل ما لا ترتضيه الأعراف في الانحياز للباطل وسلب الحق من صاحبه فانتقلت الحياة العراقية من الرفاهية والزينة والموسيقى التي تجلت سيماؤها في القصيدة إلى الظلمات فمالت الشمس إلى الغروب. كما ورد في النص المثل الشعبي ” غراب البين ” كناية عن أمريكا نذير الشؤم والموت ، وما خلقته من شتات وموت ودفن ونهب ،فالشاعر إذ يتخذ من الغراب صورة لأمريكا فلأنها تجسد الجريمة الكبرى في عصرنا منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل بدافع الغيرة والحسد، كما تجسد انحرافها عن القوانين الأخلاقية والاتجاه العدائي للإنسانية . الولاء للعراق والعروبة يجسد الشاعر ولاءه للعراق وللعروبة في أسماء أماكن وردت في النص: منطقة نجد في جزيرة العرب التي ينبت فيها العرار وهو نبت أصفر اللون طيب الرائحة وكلمة عرار تعني الرفعة والسؤدد في قواميس اللغة العربية ، ومدينة ديالى العراقية ببساتينها وأشجارها ، ومدينة الحلة ذات الكم الحضاري المادي والفكر الأدبي والفني ، مدينة الموسيقى والغناء ، إنها المدينة التي تتسم بالروعة والغزارة والثراء ، ” وشط الحلة ” نهر من أنهار العراق ومعلم سياحي مهم لوثته أمريكا بقنابلها ، وقد وردت في القصيدة أسماء محلات بغداد القديمة الخالدة في ذاكرة الشعر” العاقولية ” ” والميدان “ الشاعر هنا يعي أهمية الدور الخطابي الذي يميل إلى تجسيد آلام الانسان والعراق بشكل خاص ، يحاول التوازن أمام واقع أسود والهروب من دوامة نفسية وعاصفة روحية هوجاء يعبر عنها بمفردة ” إعصار”، باللجوء إلى الذكريات والآثار المتبقية من الديار والأهل ، فالذكريات هي المنبع الروحي الذي يغرف منه الشاعر فتولد من رحم القصيدة رؤى تبقى في التاريخ مؤطرة بعطور التراث. صوت الشاعر الراوي ينوء بثقل حالة نفسية مأزومة ينقل لنا مشاعر شخص له خبرة جمالية تتواشج مع هموم عالمنا الانساني ، شخص مواز له وهو الرسام الذي منحه هنري بيرجسون الهيمنة والمكانة الرفيعة بوصفه إنساناً ذا رؤىً مختلفة عن الإنسان العادي لأنه ينظر بعين نافذة إلى خفايا الأمور. يفتتح الشاعر القصيدة بالفعل المضارع ” يقف ” ثم يردفه بالفعل الماضي ” وقف ” وما بين الحاضر والماضي نسمع ذبذبات روحية وموجات موسيقية تنقل لنا اختلاجات الهموم التي تتجاذب الشاعر ، وقد حضر الفعل هنا بمعنى الابحار في اتجاه معين تجلى بالبحث عن الكينونة ، إنه بحث يلفه القلق والخوف والسعي وراء بلوغ الغاية . حضر المربع رمزاً للأرض ، للصلابة والاستقرار ورمزا للعراق الذي أوقعته أمريكا في المحن وضربته ضربا شديدا وسارت على غير هدى فجعلته ساحة للمعارك . كما حضر المربع بوصفه مكاناً يحتوي الروح وفضاءً يعبر عن ما اختزنه الذهن من سموم الخيانة والتآمر وصار محتوما أن يبوح به الشعر في الكتابة ،والمربع في رؤية أفلاطون شبيه بالورقة التي يستخدمها الرسام . الشاعر والرسام يجدان نفسيهما في عالم ضبابي كابوسي غريب لا يمكنهما التآلف معه. حضر السرد في القصيدة حضوراً يحاكي مشاعر الأسى والاغتراب لأننا نعيش في واقع لم نألفه في عصرنا الذي جعلته أمريكا عصرا مرهونا بالظلمات. إن ريشة الرسام ليست إلا أداة تعبر عما يجيش في قلبه وخياله من فرح وحزن وقبح وجمال وهو يشبه الشاعر في الارتباط العاطفي مع القيم الأخلاقية ، ويعيشان معا تجربة الفقدان في حالة من الحداد والكآبة وهذا ما تقودنا إليه مفردة “الشجن الأبيض” ، فالرسام تائه مابين الألوان والخامة البيضاء التي ترمز إلى صحراء الحياة في عصر المغول الأمريكي ، والشاعر تائه مابين الكلمات، يبوحان بأسرار ألمهما، فالعلاقة بينهما علاقة شجن ورؤى .تشابكت الألوان والكلمات في صورة تعبيرية تأججت فيها مشاعر الفقدان لكل ما يتخذه الانسان ملجأ ومتنفسا فالشعر والفن ليسا إلا فسحة من الضياء تتسلل إلى الروح في أوج المصائب. إن الفنان الخلاق في رؤية الفيلسوف ديدرو نعرفه من خلال ريشته التي تبحث عن التلوين الحقيقي والذي من دون ملل يخلق ضروب الانسجام والتناسق الأكثر صعوبة ويبعث في اللوحة الدفء الذي لا يضاهى .ها هو الرسام يبعد اللون الأبيض بصفته لونا موازيا للون الأسود لون الكآبة والحداد معبرا عن حالة انطفأت فيها أنوار الروح وهيمنت العتمة ،يبحث عن فردوس الطفولة ذات الألوان الزاهية في مخيلته ،يصارع حالة من الهياج والقلق والارتباك هروبا من العدم . جاء الإعصار رمزا لحالة من فورة الغضب ورمزاً في آن معا إلى تطلعات الإنسان نحو حياة هادئة تتنافى مع الحياة المعذبة المهتاجة بنيران الحروب ، لكن في العاصفة الإعصارية يتكشف العمل الإبداعي الذي يتطلع فيه الشاعر والفنان إلى الجميل الذي عرفه فلاطون بالخير المعنوي الذي هو نقيض القبح الروحي والشر. فهل أجمل من نعيم الطفولة الذي يغمرنا بالفرح النقي!! طيف الماضي والاغتراب إن طيف الماضي يمتزج مع الطيف الصوتي للشاعر المغترب في حالة من الاستفهام المنسوج بالحزن نلمسها في حرف الهمزة “أين هي الدار وأين حبيبته”، “أهي”،” أفيكم” ومن المنظور الدلالي توحي الهمزة بالوخزات الروحية إذ تقف الذات الشعرية والفنية في مكان لا تعرفه وقد كان في الماضي مهدا للطفولة والأحلام. تتكاثف الصور الشعرية مشكلة ذلك الفردوس المفقود والثراء النفسي الآفل من خلال الاستفهام المشحون بالأسى ،” لماذا”،”ماذا” استفهام يفيض داخل الشاعر والفنان بوجع الغياب فكل ما كان واقعا حقيقيا ومرئيا في ماهيته أصبح بعيدا غائبا تشير إليه أسماء الاشارة: “تلك الدار/” هذا النهر وذاك الجسر وهذي الأشجار/هذا بيت حبيبته /، كل الذكريات تدخل في فضاء الفعل الماضي الناقص “كان” فما كان حاضرا أصبح يدور في محور الغياب الذي يعمق جرح الشاعر ويذبح أمانيه ، ويجعل روحه تحلق بعيدا على بغداد ومدن العراق وتسلمه الذكريات للبكاء، في ذلك الفضاء الحميم ، بيت الحبيبة الغائبة ” كان يبزغ القمرالأخضر ” انزياح شعري له صدى يرن في عمق الذاكرة ، يعبر عن الاطمئنان والانتعاش كأنَّ العراق هو الحبيبة الغائبة يمثل الواحة الخضراء وحضن الأم ، فهو جوهر العمل الفني وبريق الابداع . وفي “الليل البغدادي ” يتدفق مقام اللامي ذي الايقاع الموسيقي الكوني التام القوي غير الرتيب بالتكرار المتناغم للفعل ” يطول.. يطول.. يطول ” تكراراً ممزوجاً بمسحة الحنين واشتعالات الذات الشعرية فليالي بغداد بعد أن كانت تصدح بالأنغام جعلت أمريكا القنابل تدوي بها فغاب ذلك الربيع الذي يرمز له اللون الأخضر وتوارى وراء أفق مجهول وغابت حلاوته إذ تحول منذ الاحتلال الأمريكي للعراق الى حميم اندثرت تحت رماده ألوان البهجة والحياة . إن الشاعر يبكي الماضي الضائع ويوجعه الغياب حين يأخذنا الى التراث العراقي وفولكلور الأغنية العراقية ، وإلى الملحن العراقي والمطرب عباس جميل بتاريخه الفني الحافل بالأنغام الخالدة ذات النفحة البغدادية الأصيلة والشجن المحرك للعواطف ، تلك الألحان التي مازالت محفورة في ذاكرة الفن العراقية والعربية وذاكرة الشعر فيعلو صوت القصيدة بالأنغام ذات الطابع الرومانسي الشجي الممزوج بالحزن والحب والفراق خالقا مفارقات جمالية وذبذبات يتدفق منها الصوت عبر الزمن ، تعزف القصيدة على أوتار الروح وتشجينا الألحان منبثقة من مقامات تتفاوت فيها شدة الصوت مابين أمواج دجلة وسعفِ النخيل وجدائل الحبيبة التي يفوح من جدائلها عطر نبت العرار. تأخذنا القصيدة إلى الحلم المعطر برائحة الحناء ورائحة الريحان فيتعانق لون الحناء ذو البريق الذي يميل إلى الحمرة مع اللون الأخضر باعثا فينا أجواء حلمية وأمواج اللون الأزرق الفاتح المضيء ،وما بين توتر وارتخاء يضيع الإحساس بالزمن في تراسل مع الأنغام يأخذنا فيها الشعر إلى التآلف والحب والالوان والعطور التي تنبثق من أنغام الأغنية العراقية التراثية : يا نبعة ريحان حني فأنا ولهان يا نبعة ريحان ومع مقام البيات يأخذنا الشاعر بعيدا إذ نغرق في الحلم والخيال لكن سرعان ما يتدفق من هذا المقام الحزن والحب والعتاب إذ يعلو صوت الشاعر بالنداء واللهفة والانتظار والشوق والاستفهام الموجع عن الغائبين ، عن الذين رحلوا ، عن بيت الحبيبة وعن بياع الورد ، وعن فرط الرمان …وبصوت عال يشهق صوت الشاعر المنشد شهقة أوشار ،ذلك المقام الذي يضمر في النص الانتظار وانكسارات الحلم ، شهقة عميقة في دلالاتها الفلسفية تتيه في الصراع مابين الماضي المضيء والحاضر المظلم في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق ، إنها شهقة البكاء والاختناق ، شهقة الحشرجة والاغتراب ، يأخذنا حميد سعيد إلى كناية شعرية مؤلمة ” أعراس الدم ” كناية ترتبط بالدم وسيميائية الدم فأعراس الدم هي أعراس الشهداء ، والدم دم الأرض المغتصبة ، ودم الحرب ونيران المنايا المتلاطمة على أرض الرافدين الموشحة بالدماء ، ودم الانسان العراقي المرمي بسهام أمريكية مسمومة ، والدم دم أحلامنا المذبوحة ، ودم الانسان النازف بالوعي الذي لا يفهم لغة “السفلة والأشباه” ، ولا لغة الغريب الأمريكي الذي هو أكثر الناس انحطاطا ، وفي خضم هذه المحن نسمع صوت خيول تعدو ترمز لبغداد في جريها الاندفاعي نحو العلوم والمعرفة والسمو الروحي والشجاعة العربية . يأخذنا حميد سعيد إلى بغداد المدينة الوادعة التي تبدو في القصيدة كأنها لوحة انطباعية تنبض بالألوان والأنغام وحقول أزهار البيبون ونبات الريحان…يأخذنا إلى الفضاء المتمدن الأصيل إلى “مقهى عزاوي ” المقهى التراثي الذي أسدلت عليه الستار أمريكا ، وهو مقهى من مقاهي بغداد القديمة الذي يصدح فيه المقام العراقي . يبكي الشاعر سلمان الذي اغتاله القناص الأمريكي برصاصته الوقحة وبلغته النزقة وهذه صورة رمزية لاغتيال الوسامة وخفة الروح والبشاشة، وسلمان رمز للإنسان الكادح الباسم وبغيابه ترتدي بغداد رداء الحداد والبؤس، وسلمان صوت موسيقى المرح والسلام المنافيين للفوضى الأمريكية التي اغتالت التراث والعادات والقيم والموسيقى والفنون التشكيلية . إن اغتيال سلمان يعكس الصورة البربرية الهمجية الأمريكية التي جعلت بغداد البهاء مدينة حزينة ترتدي رداء الخوف والقلق . وبعد أن يصدح صوت القصيدة بالنغمات العالية التي انسابت من الماضي ، يبدأ السرد الحزين بالنغمات الواطئة تمثلها القنابل الأمريكية الغليظة وهدير دباباتها التي تثير اهتزازا في كل الأوتار العصبية للنفس. صور بأشكال شتى تأخذنا القصيدة إلى الحكاية الشعبية ، حكاية فرط الرمان المرأة الحسناء التي أسكتتها صدمة الهلع عن البوح بالحق ولم تفصح عن الخوف الذي انتابها من رجل الدين الذي ابصرته يأكل لحم البغل ..إن فرط الرمان جاءت في القصيدة بقدر ما تحمله من رموز الأنوثة المثابرة الصابرة على المكابدات ، فمفهوم الأنوثة عند حميد سعيد يتجاوز البعد المادي لتأخذ بعدا غيبيا قريب من مفهوم ابن عربي الذي يرى في الأنوثة ميزات جمالية فيجعل منها تناغما في صيرورة سحرية وهي مبدأ كوني لأن صورة الكون ذات طبيعة انفعالية .، وقد تجلت فرط الرمان في القصيدة صورة أخلاقية سامية بانفعالاتها الوجدانية مناقضة للفجور الأخلاقي، وللسياسي المعاصر السارق الذي يتصف بالبشاعة والوحشية والضخامة كما تجلت صورة للسياسة الأمريكية قاطعة الطرق وسالبة الأمان ، المفترسة وهذا ما تعمل على دحضه مفردة ” إيلاف ” التي تعني الأمان وقد ضاع الأمان في العراق ، فالإنسان العراقي تائهٌ دائبٌ في البحث عن ذاته وهويته . وفرط الرمان صورة للإنسان المعاصر مخنوق الصوت ، المهجّر المطرود من بيته ووطنه في الليالي السوداء وفي أوج العذاب يدعونا حميد سعيد إلى الثبات بالرغم من الأهوال التي تعيق مسيرتنا وما علينا إلا أن نصارع الطغيان وأن لا نعيش في أرض خراب مقفرة من العدالة والحرية. تجذبنا فرط الرمان نحو الجمال والاسترسال في الحلم والخيال ،وتأخذنا إلى بهاء الأنوثة وزينتها ورنين الخلخال ، وضوء الأنوثة وضوء العراق الذي يشبه ضوء البرق ، إلى ذلك السلام الذي يضفي على الحياة الضياء المبهر .وتلوح في القصيدة ملامح الغزل العذري وديمومة الحب للوطن العراق إذ تتجلى حرارة العواطف العفيفة لإبراز مكابدات ألم الاحتلال إن هذه المشاعر الناعمة المؤثرة تعكس صورة غياب الجميل والقسوة ،فالعراق هو النسائم اللطيفة التي تهب في المساء وهو اللحن الشجي والحب العظيم الذي ينوء به قلب الشاعر وهو صبا نجد والنسمات العليلة ، وهو الأم الحاضنة للعروبة ، وهو الأنوثة التي تشرق بجمال فرط الرمان :غيمة ، مطر ، خصوبة ، برق وثراء ، والعراق دجلة الذي ترفرف على مياهه النوارس البيضاء ، و أشجار النخيل الظليلة المثقلة بالثمار ، وهو الدواء الروحي ضد العدوان الأمريكي الذي تضمره القصيدة بصورة النمل الأبيض الذي اجتاح بلادنا ، فأمريكا في ثنايا القصيدة ليست إلا دودة من أخطر الديدان وهي الأرضة التي تكيد المكائد بالخفاء وتلحق الضرر بالأراضي والأوطان و تنخر الروح ، وهي البرغوث الذي يلسع الحلم ويمتص دم الانسان . إن هذا الأمريكي الدميم ليس إلا صورة للجعلان برائحته الفاسدة النتنة التي تبرز معناها مفردة ” العطن ” ، وهو دويبة سوداء دميمة ، هذا الأمريكي القادم من المجهول ، المسلوخ عن القيم يجسد صورة أمريكا الفساد، الشاعر هنا أكثر ميلا إلى تشبيهها بالكائن الشرير ، ليس له دراية بالخير، يستبيح الأرض ، علاقاته قائمة على الافتراس والمداهمة ، لهذا لا يصنف الشاعر أمريكا في القصيدة بالآدمية لأنها لا تملك منظومة متراكمة من المعرفة الإنسانية ، قادها العلم إلى أن تدوس على الأخلاق وقد قال جان جاك روسو إن العلم بدون أخلاق لا يساوي قشرة بصلة. جسد حميد سعيد الجندي الأمريكي بصورة دموية وحشية ذات لغة لزجة ، دبقة . تركض أمريكا إلى العراق أرض الكتب والكتابة والحضارة والمياه والأهوار والبحيرات وأرض دجلة والفرات ، ومنها انبثقت أول ملحمة تاريخية إنسانية وهي ملحمة جلجامش ، وأنهار السمك البني الذي يعتبر على درجة عالية من الأهمية في العراق. . ويظل الشاعر يبكي صياد السمك البني الذي وسمه ” بالحباب ” وهي مفردة شعبية متداولة في العراق أي المحبوب ، والصياد نموذج للكفاح والتحدي وقد اغتاله السهم الأمريكي الغادر. يعلو صوت الشاعر بغزارة الشعور المملوء بالاسى والآهات المكبوتة ، يجيش بالخشوع والشفقة والصلاة والتراتيل والاستفهام ” لماذا” كأنه يذرف الدموع حين تشدو القصيدة بمقام حجاز يبكي العراق ، وفرط الرمان ، أين هي بجدائلها المنسابة بين حقول الحناء . ثم يخيم على القصيدة حزن قاتم يرمز به الشاعر إلى انطفاء الضوء وعشوائية الحياة في ظل الاحتلال الأمريكي باسلوب مجازي مغمور باللوعة : ” ماتت سيدة النزل ..وضاعت فرط الرمان / أين هي الآن ؟! يرمز الشاعر إلى مكانة المرأة الكونية في تحمل المسؤولية وقيادة زمام الأمور في المحن، كما يرمزإلى غياب من تقع عليه تبعية المسؤوليات الجسيمة في المصائب ، غياب المسؤولين من رجال الدولة، الخليعين ، المنصرفين إلى الحياة الفاسقة ، تاركي الحياة وراكبي هواهم يسميهم الشاعر ” القوالون ” و” الطبالون ” الذين يذلون شموخ الحزن الطالع من لحن مقام الرست الذي يتسم بالوقار، ، يذلون شموخ قلب الشرق وهو العراق وعنفوانه، أولئك هم المتملقون المتقربون من المحتل ، فاسدو الأخلاق ، آكلو قوت الشعب ..يعبر الشاعر عن انفلات الأمور والفوضى والبلبلة والاضطراب والتعقيدات والضجيج فكل شيء لم يعد كما كان وأبوب الأمل محكمة السد، والصباح لن ينبلج… هكذا يكشف الشاعر الوجه البشع لأمريكا ويدين العدوان على العراق والأمم ويدعو إلى تحرير الآدمية من براثنها وفساد أمركتها وعداوتها للشعوب وانتهاك أراضيهم وسلب المدن ومحو معالمها العريقة تاركة الشعر والفن والانسان في حالة من الدهشة يبكون حيرة واضطرابا وخوفا وينظرون بعيون مذهولة مما يرون من خراب إذ تبدأ القصيدة بالحيرة والألم والبكاء والوقوف على الأطلال وتنتهي بهم : يقف الرسام أمام مربّع لوحته .. فيرى ألوان اللوحة في غير مواضعها .. ثم يرى بغداد .. وقد ذهلت عما كان بـــــها .. تدخل منزلةً ما كانت تقربها قصيدة حميد سعيد الموسومة ” مقامات بغدادية ” تطفح بالحزن الانساني ، رافقتها الموسيقى الكامنة في العنوان فألقت ظلالها على المتن .وقد كتب الناقد الفرنسي جون لويس جوبير في كتابه ” الشعر” أن الشعر أقرب إلى الموسيقى وهذا يمنحه خاصية للأصوات وربما ولد الشعر من الغناء والرقص. تدورالقصيدة في فضاء ميتافيزيقي يسبح في ظلال الماضي والذكريات، وفي أفلاك فلسفية تدور في محور الغياب ومجهولية المصير.. فالأمل غاب غيابا مطلقا لأن فكرة الشاعر تستند إلى واقع لا يمنحنا الأمان الروحي ، بل هو اقع مجهول يتشح بالرماد والسواد..فإنسان اليوم لا يشعر بالراحة والسكينة إذ تداهمه الحروب على حين غفلة ، والشاعر يذهب كما ذهب الفيلسوف ماك تاغارت إلى ما يسميه بفهم الطبيعة المطلقة للواقع…فالشاعر والفنان لم يجدا ما يعبران عنه من الأسى والحزن والجروح إلا القصيدة والرسم ،وبدت ملامح الحزن تخيم هنا وهناك وختمت بفضاءات مفتوحة على اليأس من الامساك بالأمل بسبب الآفات الأخلاقية التي بثتها أمريكا وعولمتها الخليعة فخلقت عالما مضطربا مبلبلا ، وجرحت بغداد السلام ، فبغداد اليوم مجروحة في صميم قلبها وأمجادها وعروبتها ،لكن الاحباط قد يفتح نوافذ الأمل والتواشج أمام الانسان كتواشج النخيل والشجر في غابات العراق ، وهذا لا يمنعنا من العودة إلى مقولة الفيلسوف أرنست بلوخ إن الأمل يظل حيا ضاربا بجذوره في الوعي واللا وعي الانسانيين.
مشاركة :