«أمريكا بلد التناقضات»، كلمات معبّرة قالها لي أحد من حاورتهم. عكس دول كثيرة والتي يتفق أهلها على آراء كثيرة تخص شؤون بلدهم، مثل الأمور المالية (كالضرائب) والاجتماعية (كنظام الرعاية الاجتماعي) والسياسية (نوع التمثيل الديموقراطي)، فإنّ الأمريكان لا يتفقون أبداً على أي موضوع، وهناك رأيان لكل موضوع بل عشرين رأياً! قد يبدو السبب حجم الدولة. الكثير إذا زارها يتفاجأ من ضخامة الولايات المتحدة، فهي جغرافياً من أكبر دول العالم، وبعض ولاياتها مثل آلاسكا وتكساس أكبر من الكثير من الدول، وولايات مثل كاليفورنيا ونيويورك لها اقتصاد أعظم من دول كاملة. أمريكا ليست دولة يُمكن أن تُلخَّص في عبارات مثل «الأمريكان من صفاتهم كذا» أو «الأمريكان يعتقدون كذا»، بل الأمة تحوي من الأعراق والأعراف والأنواع الشيء الكبير، حتى إن بعض الخبراء يقسّمها إلى عدة أمم وليست أمة واحدة. وهذا موضوع كتاب شائق اسمه «أمم أمريكية» للمؤرخ كولن وودورد، يقول إننا لن نفهم سبب تعارض آراء الأمريكان في كل شيء إلا لو فهمنا تاريخ الدولة وتحديداً تاريخ الأمم التي صنعت هذه الدولة، فهي ليست مجرد هجرة أوروبيين إلى قارة جديدة ثم إنشاء دولة، بل تاريخ أمريكا بالغ التعقيد والتشابك، فلم تبدأ بالإنغليز المهاجرين كما يعتقد الناس، بل بالإسبان الذين غزوا ما يسمّى اليوم المكسيك ثم توسعوا من أسفل أمريكا وصنعوا حضارة، ثم شيئاً فشيئاً بدأت أمم من إنغلترا واسكتلندا وهولندا وأيرلندا تهاجر وتسكن أماكن مختلفة، وكل منهم له حضارة وتوجهات، والأمم التي تُشكّل أمريكا اليوم هي: 1) أمة اليانكيز: هذه الأمة تشمل ولايات كونيتيكيت، ماساشوستس، مين، نيو هامبشر، رود آيلند، فيرمونت، معظم ولاية نيويورك (باستثناء مدينة نيويورك). أمة اليانكيز تفضل مصلحة المجتمع على الفرد، وتعشق التبشير بهذه القيم ليس في أمريكا بل في كل العالم. 2) أمة هولندا الجديدة: مدينة نيويورك والمناطق المحيطة بها. اسم المدينة أصلاً كان نيونذرلاند (أي هولندا الجديدة)، أسسها مهاجرون هولنديون، وغيّر البريطانيون في أول أيام أمريكا اسمها بالقوة لتُشابه مدينة يورك البريطانية. هذه الأمة تؤمن بالحرية، والتنوّع الثقافي الحضاري، والتجارة، وبنية تحتية تموِّلها الحكومة والضرائب. 3) أمة الساحل الأيسر: هذه الأمة تشمل الساحل الغربي، من مونتيري في كاليفورنيا وإلى أقصى الشمال حتى كندا. كانت كاثوليكية لكن حاولت أمة اليانكيز أن تنشر فيها دينها البروتستانتي، ثم ظهر الذهب في القرن 19 وانقض أناس من شتى أنحاء أمريكا بل العالم هناك، فاختل التوازن السكاني، وصارت خليطاً من الناس. هذه الأمة تجمع بين قِيَم اليانكيز (المجتمع فوق الفرد، الالتزام بالقيم العامة)، وبين قِيَم هولندا الجديدة (التسامح والتعدد الحضاري). هذه الأمم الثلاث (رقم 1 و 2 و3) تشكل تياراً كبيراً يسمّى اليوم التحالف الشمالي. سنرى في المقالة القادمة التيار الكبير الآخر والذي ينافس التحالف الشمالي، والذي ينازعهم السلطة منذ أول أيام الدولة.
مشاركة :