«اليمين البديل»: العنصرية «المحترمة» في الولايات المتحدة

  • 9/4/2016
  • 00:00
  • 24
  • 0
  • 0
news-picture

دونالد ترامب ليس عنصرياً بالمعنى العقائدي. فهو، وإن تفوّه يومياً بالعبارات المسيئة، وإن تمخض فكره عن أشباه سياسات تستهدف أعراقاً بأكملها، فإنه سرعان ما ينطق، صادقاً أو كاذباً، بالثناء والتقدير للأعراق عينها، مع كامل تأحيدها وتسطيحها وتنميطها في كل من المدح والذمّ. فعلى مدى أكثر من عام من حملته الانتخابية الاستعراضية، كشف أنه عاجز عن دقة التفكير ولياقة الكلام، فهو إذ يجرح ويهين، فإن استدعاءه للتمييز على أساس العرق جزء فحسب من أسلوبه الذي يريده تحرراً من الصواب السياسي، والقائم على إخراج أية فكرة وردت في ذهنه بشكلها الفجّ، مهما كانت صبيانية. وفيما يتأرجح ترامب بين الصراحة والوقاحة شكلاً، فمضمون كلامه يبقى ضمن إطار البساطة والسطحية بما هو أقرب إلى الاستهتار بالمشاعر العرقية منه إلى العنصرية الواعية. غير أن هذا الوصف لا ينطبق على الكثيرين من مؤيديه، لا سيما منهم الطاقم الذي تولّى مؤخراً مسؤولية حملته الانتخابية. فالعديد من هؤلاء، سرّاً وجهاراً، يندرجون ضمن توجه «اليمين البديل». «اليمين البديل alt-right» تسمية جديدة نسبياً لمسمّى قديم. إنه الإطار الفكري السياسي الاجتماعي في الولايات المتحدة، الحاضن لطروحات قد تجد صيغها الملطّفة بعض القبول في أوساط متفاوتة من المحافظين، لكنها في صيغها الأكثر صرامة وصراحة تبتعد عن المتعارف عليه ثقافياً فتصنّف بالتالي بالهامشية. والسمات الرائجة في هذه الطروحات هي القطعية، والمؤامراتية، والاختزالية، والريبة من الغريب، والنفور من المختلف. وخلاصة هذه الطروحات التي ابتدأت خجولة لتصبح اليوم صريحة ومدوية، هي أن المواطنين البيض في الولايات المتحدة، من ذوي الأصول الأوروبية المسيحية هم في آن واحد صانعو عظمة البلاد والمستهدَفون للتذويب. والجاني هنا إما حاقد وخبيث (أي اليهود) أو منحط خَلقاً وخُلقاً (أصحاب البشرات السمراء والسوداء، بمن فيهم الأفارقة الأميركيون والهيسبانيك والمسلمون). فهؤلاء المعتدون يريدون انتزاع ممتلكات البيض، واستنزافهم عبر الضرائب، والاستيلاء على إنجازاتهم، وإن كانوا عاجزين بحكم قصورهم الطبيعي عن الاحتفاظ بها. وقد تعمد الشخصيات الفكرية والإعلامية المتماهية مع «اليمين البديل» إلى التركيز على قضايا مختلفة، منها الدعوة إلى إلغاء برامج الدعم الاجتماعي، والتي تشكل بنظرها مكافأة على الكسل، وبرامج العمل الإيجابي (أو نظام الكوتّا) التي تفرض حصصاً في المؤسسات العامة والتعليمية لمصلحة الأقليات التي عانت من التفرقة تاريخياً، فلا ترى فيها إلا تمييزاً جديداً بحق البيض من أصحاب الكفاءات، ومنها قصْر الهجرة الوافدة على البيض الأوروبيين المسيحيين للمحافظة على سلامة المجتمع ووحدة هويته الثقافية، ومنها كذلك رفع القيود عن امتلاك السلاح والإقرار بأن الإجرام ليس آفة تصيب مختلف المكونات بقدر متوازٍ بل إن الأقليات هي المصدر الأول له. والقاسم المشترك بين هذه القضايا هو أن العرق الأبيض الأوروبي المسيحي في الولايات المتحدة يشكل أمة تامة متقدمة متفوقة، يحق لها أن تدافع عن نفسها إزاء ما سيلحق بها من انحلال وزوال في حال تحقق المشروع المعادي المتستر بالتقدمية والمساواة. فقد تمّ للتوّ تجريد هذه الأمة البيضاء من عزّتها التاريخية، عبر حصر تاريخ الولايات المتحدة بمظالم للأقليات، ومن قوتها الاقتصادية، عبر ترحيل قطاع الإنتاج الصناعي إلى الخارج وحرمان العامل الأبيض من وظيفته ودخله، وعبر السعي إلى تبديل هوية البلاد بفتح باب الهجرة لغير المسيحيين الأوروبيين. واليمين البديل يتحدث عن «واقعية عرقية» وينفي عن نفسه تهمة العنصرية، إذ هو حين يدعو إلى الاعتزاز الأبيض يسعى فحسب إلى منح الأبيض ما هو للتوّ متحقّق للأسود والأسمر، حيث إنه لا حرج للأفارقة الأميركيين مثلاً من تشكيل الجمعيات الخاصة بهم، والجامعات المقتصرة على طلابهم، في حين أن الفعل نفسه مدان ومثير للاستهجان إذا أقدم عليه البيض. فالمجتمع الأميركي من وجهة نظرهم مفروز عرقياً، فيما النظام السياسي، بفعل الخبث والطمع، يعمد إلى الاعتداء على الخصوصية البيضاء. والدليل على استتباب الفرز هو في الكنائس، حيث إن الكنيسة هي المؤسسة الوحيدة التي لا سلطة للنظام السياسي عليها، والكنائس في غالبيتها الساحقة، بما يتجاوز التسعين في المئة، تتألف من أكثريات عرقية حاسمة تقترب بدورها من التسعين في المئة. هي طروحات أصبحت مع احتضان ترامب لأصحابها موضوعاً للاستهلاك الإعلامي والثقافي والسياسي بما جعلها جزءاً من المتداول المعتاد، بغضّ النظر عن أنها طروحات واهية بمجملها، عرضة للتهاوي عند التمحيص. فالبيض، إن تمّ جمعهم على اختلاف توزعاتهم لغرض المجادلة، هم المستفيد الأول من البرامج الاجتماعية، والمرتكب الأول للجرائم، وأصحاب السطوة والسلطة في السياسة والمال والأعمال. والهوية البيضاء المزعومة ليست متحققة، بل هي مشروع هوية يستقطب لا البيض عامة، بل المتضررين من تبدل الأحوال الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وبالفعل، فإن الفئة الأكثر تجاوباً مع طروحات اليمين البديل هي الرجال البيض المتقدمون في السنّ نسبياً والمفتقدون للمستوى الدراسي المتقدم، أي الشريحة الأكثر تأثراً بتبدل النظم القائمة، من دون أن يكون اليمين البديل موضوع الاستقطاب الأول لدى هذه الفئة. فعلى رغم زعم اليمين البديل التعبير عن مصالح البيض عامة، فإن قدرته على الاستقطاب ضئيلة وذات سقف منخفض. لكن استدعاء دونالد ترامب لليمين البديل يوازي في بعض أوجهه الارتباط بين الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش والتوجه المحافظ الجديد. فكلا التوجهين منخفض السقف بذاته، لكنه قادر على التأثير بما يتجاوز سقفه من خلال الارتكاز على حضور سياسي أكثر تجذراً. فكما أن المحافظين الجدد اعتمدوا على العمق المحافظ للحزب الجمهوري، فإن اليمين البديل يمتطي شعبوية دونالد ترامب ليضاعف قدرته على التأثير. الحاصل إذاً أن اليمين البديل خرج من الهامش وأصبح رؤية عرقية «محترمة» أي مقبولة في التداول السياسي المعتاد في الولايات المتحدة. والتلاقي بين هذا اليمين وترامب يعزز قدرة كل منهما على الإنجاز. وإذا كان فوز ترامب بالرئاسة لا يزال مستبعداً، فإن استتباب اليمين البديل في الحياة السياسية في الولايات المتحدة قابل لأن يتعاظم في حال فوز ترامب، لكنه أقل قابلية لأن ينحسر في حال خسارته.

مشاركة :