مع انتصاف الدورة الـ 73 لمهرجان فينيسيا السينمائي، يفاجئنا المهرجان بالفيلم الأرجنتيني "المواطن المتميز" للمخرجين غاستون دوبارت وماريانو كون، وهو أحد 20 فيلما تتنافس في المسابقة الرسمية للمهرجان. وعلى الرغم من ميزانية إنتاج الفيلم المحدودة، إلا أنه أثبت أن السينما ما زال بوسعها أن تقدم ما يدهش ويمتع ويثير الفكر، وما يطرح قضايا لا يتطرق إليها كثيرا عن الثقافة والشهرة وعن فكرة العودة إلى الوطن الأم، وعلاقة المثقف المغترب ببلده الأصلي. الشخصية المحورية في الفيلم هي دانيال مانتوفاني (أوسكار مارتينز) ذلك الأديب الأرجنتيني الستيني الشهير المقيم في برشلونة الإسبانية الذي غادر بلده الأم منذ عقود بلا رجعة. ووفقا لـ"بي بي سي" تأتي علاقة مانتوفاني بالشهرة ملتبسة تماما، فهو يعيش في إسبانيا في بحبوحة كبيرة من العيش توفرها الشهرة التي يحظى بها، وتضاعفت هذه الشهرة وما تدره من مال وفير، بعد حصوله على جائزة نوبل في الآداب. ولكن مانتوفاني - على الرغم من شهرته الواسعة - يحب أن ينظر إلى نفسه بوصفه شخصا غير مؤسساتي متمرد على كل الجهات الأكاديمية والسياسية التي تمنح جوائز، كجائزة نوبل. وفي مشهد افتتاحي يوضح العلاقة الملتبسة بين مانتوفاني والشهرة والمؤسسات المانحة لها، نجد مانتوفاني جالسا في ردهة جانبية في الأكاديمية السويدية التي تمنح جوائز نوبل في حالة ترقب شديد وقلق، وما إن يعلن اسمه فائزا بالجائزة المرموقة حتى تتهلل أساريره في سعادة غامرة في لقطة عن قرب "كلوس أب" على وجهه. ولكن ما إن يصعد مانتوفاني إلى خشبة المسرح لتسلم الجائزة، حتى نجده يلقي كلمة متقدة الحماس لاذعة النقد يندد فيها بالمؤسسة الثقافية والجهات الأكاديمية المسؤولة عن منحه الجائزة، واصفا حصوله عليها بأنه نهاية مسيرته الأدبية، مؤكدا أن حصول الكاتب على الاعتراف المؤسساتي فيه نهايته وموت له كأديب. ويجدر التنويه هنا إلى أن مانتوفاني شخصية متخيلَة تماما، فلم يسبق أن فاز أي أديب أرجنتيني بجائزة نوبل. وبعد خمس سنوات من الحصول على الجائزة، وفي جلسة مع مساعدته التي تشرف على ندواته ومحاضراته ومواعيده، نرى مانتوفاني يرفض كل الدعوات الموجهة إليه من جهات ثقافية وأكاديمية، إلى أن تفتح المساعدة خطابا صغيرا من عمدة بلدة سالاس الأرجنتينية، مسقط رأس مانتوفاني، يقول فيه إن البلدة تود تكريمه ومنحه جائزة "المواطن المتميز". ولا يتردد مانتوفاني، الذي يترفع عن جل التكريمات والمقابلات، كثيرا في قبول دعوة عمدة بلدته الأم التي لم يزرها منذ نحو 40 عاما. مشاهد احتفال البلدة بابنها البارز مانتوفاني من أكثر المشاهد طرافة في الفيلم، حيث انتزعت من الحضور، عامة ونقادا، الكثير من الضحكات، فعلى النقيض التام من التمدن ومراسم التكريم الأنيقة التي اعتاد عليها مانتوفاني في أوروبا، تحييه سالاس بفرقة من رجال المطافئ الذين يرفعونه إلى أعلى ظهر مركبتهم التي تجوب شوارع البلدة، وبصحبته فوق المركبة ملكة جمال البلدة التي تحيي الجماهير وتلقي القبلات في الهواء تحية لمونتوفاني. كل شيء في سالاس يبدو رثا حقيرا يعود إلى عقود مضت كما لو كان ركب العمرانية والتحضر غادر المدينة على حالها وذهب، في الفندق العتيق الرث الذي يقيم مانتوفاني فيه، والذي يعد أفضل فنادق البلدة، يتصل مانتوفاني بمساعدته ليقول لها إن الفندق "أشبه بفيلم روماني"، حيث تشتهر الأفلام الرومانية بديكورها ومشاهدها الرثة القديمة. ويبدو جمهور الحضور في الندوات التي أقيمت لتكريم الأديب الشهير والابن البارز للبلدة واجما بليدا، ويظهر أنهم جاؤوا دون أن يقرأوا أيا من أعماله ولم يكن لديهم أي أسئلة ليطرحوها عليه، ويبدو الجهل المطبق سمة مميزة لأهل البلدة. ويشعر مانتوفاني بعد ثلاثة أيام أقامها في البلدة، بأن حيزه الشخصي مخترق وغير محترم، فهناك دوما من يتبعه ومن يصوره وهو يسير، ومن يحاول عنوة أن يذكره بنفسه، ومن يصر على أن أباه هو الشخص الذي استلهم منه إحدى شخصياته، أو من يريد أن يجمع تبرعا كبيرا من مانتوفاني لشراء مقعد متحرك لابنه، وثمة شعور دفين بالحسد والغيرة من قبل أهل البلدة إزاء مانتوفاني، فقد غادر بلدتهم التي أكل الدهر عليها وشرب ليعيش في رغد وبحبوحة في الغرب. ولا نكاد نرى شخصيات طبيعية متوازنة في سالاس بخلاف إيريني، حبيبة مانتوفاني السابقة التي تركها منذ عقود للسفر إلى أوروبا، وباقي شخصيات القرية تكاد تكون كرتونية أحادية الجانب والمنظور.
مشاركة :