حين يصبح الخيال أكثر ظلمةً من الواقع "في ممر الفئران"

  • 9/8/2016
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

هل يمكن أن يؤثر واقعنا السياسي والاجتماعي على خيالنا لهذه الدرجة؟ هل يمكن لحواجز الواقع وأسواره أن تكون مانعاً لخيالنا حتى وإن كان خصباً من التحليق عالياً؟ من أن يرى بصيصاً من النور ولو بعيد؟ من أن يأمل في غد أفضل لأجيال قادمة.. لا أنكر أنني أصبحت أكثر تشاؤماً عما كنت عليه طوال حياتي، لم أعُد آمل في الكثير، أهدافي أصبحت جلية أمامي، سأحاول قدر استطاعتي ألا أُفصل من عملي، سأحاول أن أستقل في سكني بعيداً عن العائلة، وسأحاول جاهداً أن أمتلك حق فنجان من القهوة أقضي على أثره الليل مع أصدقائي المقربين في مقهي بلدي نتحدث عن قادمنا القاتم، وأخبار الرياضة، ومقالاتي الجديدة، سيكون هذا مُرضياً جداً فيما هو قادم. أما أحلام السفر، الزواج من فتاة شبه مثالية، امتلاك شقة في " كومباوند"، وفيلا في الساحل الشمالي، وامتلاك سيارة "مرسيدس" من فئة "c180" فهي أشياء لم تعد تشغل بالي كثيراً، لأنها أصبحت أشبه بتصور الجنة حين يتحدث عنها خطيب الجمعة، فقط يمكنك تخيلها لا أكثر. لكني ورغم تشاؤمي هذا ما زال لدي شغف وحيد في هذه الحياة وهو القراءة بلا ملل، العلم والتعلم، وحين يصبح واقعنا مظلماً نحاول اقتباس ضوء ولو خافت من الخيال؛ لذلك تصبح الروايات أحياناً ملاذي الأخير، أمقت الحكايات غير القابلة للتحقق، تلك التي تحوي نهايات سعيدة لكنها كاذبة، أفضل الخيال الذي يشبه الواقع، كأن يكون تصوراً لمراحل متقدمة من واقع نعيشه، هنا يصبح الخيال مستساغاً في نظري ومقبولاً إلى حد بعيد، ويا حبذا لو كان خيال الدكتور. أحمد خالد توفيق أو "الدكتور"، كما يحلو لأبناء جيلي تسميته، هذا الطبيب البشري والكاتب الأقرب إلى الشباب من بين كتاب جيله، يمكنك أن تلقبه بعراب هذا الجيل، ربما لأننا نشعر أنه نما معنا، تحسس خطواته الأولى في الكتابة على مرأى ومسمع منا، تطور فكره وأسلوبه بمحاذاة تطورنا ونمونا، فكان أدبه يناسبنا ويشملنا في كل مرحلة من حياتنا، بدءاً من روايات الجيب إلى القصص القصيرة والروايات والترجمات وانتهاء بالمقالات، دائماً أبطاله معنا، تعلمنا من رفعت إسماعيل في سلسلة "ما وراء الطبيعة"، وتخيلنا أنفسنا مكان علاء عبد العظيم في سفاري، وناضلنا مع عبير في فانتازيا، كان دائماً يعبر عما يكمن في خيالنا، ولا ندري هل كان يسبقنا إليه أم أنه يسايرنا فيه، هل تشكلت أحلامنا وخيالاتنا بكتاباته أم أنه استلهم كتاباته من خيالاتنا، المهم أنه كان معنا. حتي حين كنا نحلم بشيء من التغيير كان هو يحلم بالثورة أو قد يتوقعها، كان يسبقنا بخطوة على الأقل حين كتب يوتيوبيا، وحين ساءت الأمور، واستحال حلم التغيير إلى كابوس، قرر أن يبعدنا عن الواقع قليلاً، ولجأ إلى المستقبل البعيد، قرر أن يجعلنا نقرأ بعض صفحات من كتب سماوية تحكي عن مستقبل غريب، قد يبدو سوداوياً، قد يبدو مستحيلاً، لكنه كان يُحذرنا من شيء حين كتب "مثل ايكاروس". والآن، في هذا الواقع المريب، وفي ظل هذه الحالة من التخبط السياسي والتدهور الاقتصادي والتفكك المجتمعي، وفي ظل تردي الظروف المعيشية وزياده الفقر واتجاه الطبقة الوسطى إلى الاندثار، وحين أصبحنا نستبعد انصلاح الحال، حين تأكدنا أننا نسير عكس الاتجاه، وحين أصبحنا متشائمين كان هو أكثرنا تشاؤماً، لم يكتفِ الدكتور بالتعبير عما يعترينا من تشاؤم وتوقع الأسوأ، وإنما كان يسبقنا بخطوات، إن جاز التعبير، وشَخّص لنا هذا الظلام الذي أصبحنا فيه دون أن ندري سببه، أتدرون ما سر هذا التخبط؟ ما سر هذا الظلام؟ لماذا أنتم ضائعون وتائهون؟ لأنكم ببساطة "في ممر الفئران". في حديث له على إحدى القنوات الفضائية، قال الدكتور نصاً: إن روايته "في ممر الفئران" ليست رواية بقدر ما هي معالجة نفسية شخصية له، الرواية التي تحكي عن نيزك يصطدم بأجزاء من الأرض لتفنى هذه الأجزاء، أما الناجون فيعيشون في ظلام مدقع نتيجة سحابة من الغبار تكونت إثر هذا الاصطدام ليسود الظلام، وحين يستشري ويستمر يصبح هو الواقع والحقيقة ويصبح النور من المحرمات؛ ليتحكم في العالم بعض العسكريين الذين يعيشون في جبال الهيمالايا فوق هذه السحابة، ويستولون على ثروات الشعوب، ولكي يثبتوا ملكهم يعملون على استمرار الناس في الظلام، يعملون على جعل الظلام والجهل عقيدة، بعض رجال الدين قد يجدون نفعاً في هذا، وبعد فترة يصبح من يبحث عن النور مهرطقاً وزنديقاً، سيواجه الناس من يحاول البحث عن النور أو إشعال عود من الثقاب حتى. وفي واقعنا الحالي أصبحت الرواية أقرب للواقع منها إلى الخيال، فلا يشترط أن يأتي الظلام من جسم خارجي عنا، الجهل ظلمات، والعصبية ظلمات، والطائفية ظلمات، والظلم ظلمات، وقبول الظلم ظلمات، وتقييد الحريات ظلمات، والعبودية ظلمات، وفي ظل مجتمع يملك كل هذه الصفات، تصبح الفكرة مجوناً، ويصبح التجديد هرطقة، ويصبح العقل وبالاً على صاحبه، وتصبح الثورة جريمة، ويصبح النور حراماً. لكن ليس هذا الجانب هو الأكثر تشاؤماً في الرواية، فحتى أكثر الروايات تشاؤماً تنتهي ببصيص نور، جانب مشرق يعطي قليلاً من الأمل في غد أفضل، لكن الدكتور لم يفعل هذا، الدكتور قرر أن يخبرنا وللمرة الأولى في حياتنا بالحقيقة التي لا نراها أبداً في أفلامنا، فالواقع في وطننا يقول إن البطل الفقير لا يتزوج من بنت الوزير، الشاب الذي سافر ليعود بعد عدة سنوات محملاً بالمال مات في عرض البحر، وتناولت الأسماك جثته في وجبة العشاء، والرجل الذي بدأ حياته بدكان صغير لن يصبح صاحب مجموعة شركات وغالباً سيموت بداء في جهازه الهضمي في مستشفى حكومي؛ لأنه لا يملك ثمن الدواء، أما الرواية فتخبرنا أنه حتى الذين هم منا، الذين توسمنا فيهم الخير وحملناهم على أعناقنا يوماً، إن وصلوا إلى النور يوماً، لن يشفقوا على أحد منا، وقد يكونون أقسى علينا ممن سبقوهم؛ لأنهم رأوا الظلام قبل أن يستعبد النور أبصارهم وقلوبهم، السلطة تُغير.. المال يُغير، وكذلك النور يُغير، ومن يرى النور سيدفع أي ثمن حتى لو كان حياة رفقاء الدرب حتى لا يعود إلى الظلام، حتى لا يعود إلى ممر الفئران. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :