لم يعد السؤال الذي يدور بين المختصين والمصرفيين في بريطانيا، يرتبط كثيرا بمقدار ارتفاع أو انخفاض سعر صرف الاسترليني في مواجهة الدولار أو اليورو أو الين الياباني أو أي سلة من العملات الدولية، وإنما تجاوز الأمر ذلك، وبات السؤال الآن يرتبط أكثر بمدلول تحسن سعر صرف الاسترليني أو تراجعه، وهل دخلت العملة البريطانية حالة من التقلبات السعرية وعدم الاستقرار، وإلى أي مدى يمكن لهذه الظاهرة أن تستمر؟ وبالطبع يظل السؤال الرئيسي والعملي مرتبطا بالفائدة أو الخسائر التي يتعرض لها الاقتصاد البريطاني جراء ما يحدث. فالأسبوع الماضي بدا وكأنه واحد من أكثر الأسابيع تعبيرا عن التقلب الذي يواجه الاسترليني منذ بعض الوقت، وتحديدا منذ أن انحاز البريطانيون إلى خيار الخروج من الاتحاد الأوروبي، وخلال يومي الإثنين والثلاثاء الماضيين حقق الاسترليني موجة صعود وسجل أعلى مستوى له في سبعة أسابيع. وكان الاسترليني في الفترات السابقة – قبل الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي - يحافظ على صعوده إذا ما تحقق لعدة أسابيع وربما أشهر، ولكن بحلول يوم الأربعاء أخذت العملة البريطانية في الاهتزاز، ثم التراجع الخميس، لكنها عادت واستعادت تفوقها في الجلسات الصباحية ليوم الجمعة، لتستعيد بذلك بعضا مما خسرته في جلسات سابقة، لكن مع ختام تعاملات الأسبوع تراجعت قيمة الاسترليني لأدنى مستوى خلال أسبوع. وأوضح لـ "الاقتصادية"، بيرسي هيل المختص في مجال العملات أن الاسترليني تراجع يوم الخميس بشكل كبير أمام الدولار، لكن في جلسة التداول الصباحية في بورصة لندن يوم الجمعة الماضي، حقق مكاسب أمام سلة من العملات بنحو 0.07 في المائة، وارتفع أمام الدولار بـ 0.12 في المائة، وبلغ سعر التداول حينها 1.3316 للدولار. وحول أسباب هذا التحسن يقول "إنه في صباح ذلك اليوم أصدر المركز الوطني للإحصاءات تقريرا كشف عن تراجع العجز التجاري للمملكة المتحدة في شهر تموز (يوليو)، بسبب زيادة الصادرات، وانخفاض سعر الاسترليني في مواجهة الدولار، إضافة إلى تراجع العجز في السلع والخدمات من 5.6 مليار إلى 4.5 مليار، إذ قفزت الصادرات بنحو 800 مليون جنية استرليني، بينما انخفضت الواردات بـ 300 مليون استرليني". وأشار هيل إلى أن يوم الجمعة شهد تراجع الاسترليني في مواجهة الدولار حيث بلغ سعر التبادل حاليا 1.32655 دولار لكل استرليني، ويمكن إيعاز ذلك إلى أن الأسواق باتت لديها قناعة بأن الاتجاه الغالب داخل لجنة السياسات المالية في الفيدرالي الأمريكي تنحاز لمصلحة رفع أسعار الفائدة الأمريكية. لكن عددا من المختصين يعتقدون أن تحليل معدلات الصعود والهبوط في سعر صرف الاسترليني خلال الأسبوع الماضي، يكشف في طياته عما هو أهم من مجرد التغير في قيمة الاسترليني أمام العملات الأخرى. وليم كون مختص التحليل المالي في بورصة لندن يقول لـ "الاقتصادية"، "إن الأسواق تبدو الآن أكثر استيعابا لنتائج الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وإن ردة الفعل الأولى المعادية لهذا القرار بدأت في الانحسار". وأضاف وليم كون أن "هذا لا يعني أن أزمة الاسترليني قد انتهت، فحالة التذبذب ستتواصل ولكن لن تكون بذات الحدة التي شهدتها الأسواق في أعقاب ظهور نتائج الاستفتاء، ويمكن أن نشاهد جولة أخرى من التراجع الحاد مع انطلاق المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بشأن الانسحاب، فمع كل جولة ومع كل عقبة في الحوار سيتعرض الاسترليني لهزه في سعر الصرف ليس فقط أمام الدولار إنما أيضا في مواجهة اليورو". ومع هذا، فإن الاتجاه السائد لدى المختصين في بنك إنجلترا يشير إلى أن سعر صرف الاسترليني سيرتبط خلال الفترة المقبلة بمعدل نمو الاقتصاد البريطاني، وإذا ما ارتفع هذا المعدل فإن البنك لن يكون في حاجة إلى تبني مزيد من السياسات التحفيزية التي تضعف الاسترليني. ونالت تلك التكهنات دعما في أعقاب إعلان كل من بنك "جي بي مورجان"، و"كرديت سويس" توقعاتهما بشأن معدل نمو الاقتصاد البريطاني بالارتفاع من 1 في المائة هذا العام الى 1.9 في المائة، وهو ما قد يؤدي إلى ارتفاع قيمة الاسترليني في الفترة المقبلة. ويحذر بعض الاقتصاديين من الإغراق في التفاؤل تجاه معدل نمو الاقتصاد البريطاني وسعر صرف الاسترليني، ومن هؤلاء مايك ريس موج المختص الاستثماري في مجموعة "إل آند دي"، الذى يؤكد لـ "الاقتصادية"، أن الأمر يبدو مبكرا للتكهن بمعدل نمو الاقتصاد البريطاني في الفترة المقبلة، فالأمر سيتوقف على مجموعة مركبة من العوامل، أبرزها نتائج المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، وهو أكبر شريك تجاري لبريطاني، وثانيا موقف الشركات والبنوك الدولية من الاستثمار في المملكة المتحدة، فإذا انسحبت تلك الشركات فسنشاهد انخفاضا شديدا في سعر صرف الاسترليني في مواجهة العملات الدولية، كما أن معدل ومدى التذبذبات التي ستتعرض لها العملة البريطانية، سيرتبط أيضا بطول الفترة الزمنية لمفاوضات الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ويؤثر الوضع القلق للعملة البريطانية بلا شك في الصناعات المحلية وكذلك في قدرتها على الاستيراد والتصدير، إلا أن هذا التأثير يسير في اتجاهات متباينة، ويعود ويؤثر بدوره في سعر صرف العملة البريطانية. الدكتور هنري فرانك أستاذ الاقتصاد البريطاني في جامعة ليدز يوضح لـ "الاقتصادية"، أن سعر الاسترليني والوضع الراهن من التقلبات التي يتعرض لها، جزء من مشهد اقتصادي بريطاني أكبر، فالصناعات التي تعتمد على استيراد المواد الخام من الخارج، ستعاني ارتفاعا في تكلفة الإنتاج، ومن ثم ستتراجع قدرتها التنافسية أمام السلع الأمريكية والأوروبية، أما الصناعات التي يعتمد معدل الربح لديها على التصدير للخارج فإن انخفاض قيمة الاسترليني سيؤدي حتما إلى زيادة الطلب على منتجاتها. وأشار فرانك إلى أنه يصعب الآن وضع تصور حاسم ونهائي بشأن موقف الاسترليني المستقبلي، ولمعرفة ذلك يتطلب الأمر مزيدا من الوقت "حتى تكون لدينا تصورات دقيقة حول عدد من العوامل، مثل تأثير تقلبات سعر الصرف بين الاسترليني والعملات الدولية في الميزان التجاري البريطاني، ومسار معدلات النمو في بريطانيا، إضافة إلى مباحثات انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وجميعها ستؤثر في العملة البريطانية وتتأثر بها".
مشاركة :