لعل الفضيلة الأساسية لمسرحية يوجين أونيل الطويلة الأولى «ما وراء الأفق»، تكمن في أنها كانت المفتتَح الحقيقي للمسرح الأميركي الكبير والجاد، الذي لم يكن له من وجود قبل العشرية الثانية من القرن العشرين. كان ثمة مسرح بالطبع في أميركا من قبل، لكنه كان شيئاً آخر تماماً: عروض صاخبة ضاحكة تشبه كل شيء إلا المجتمع الذي تُقدّم في إطاره. ومن هنا، جاء أونيل بتلك المسرحية بعد عملين قصيرين تمهيديين، ليخترح لأميركا مسرحاً كبيراً لن يكفّ عن إدهاش العالم بعد ذلك. ومع هذا، موضوع «ما وراء الأفق» بسيط، عائلي لا قلبات كبيرة فيه ولا اشتغال حديثاً على مفاهيم الزمان والمكان، ولا حتى تساؤلات أخلاقية أو وجودية. كل ما في الأمر أننا هنا أمام حكاية غرامية بطلتها فتاة حسناء طيبة وبسيطة، وفارساها شقيقان متوسطا الحال، وبيئتها الطبقة البائسة الأميركية التي تسعى الى إيجاد مكان لها في الوجود. فهل نضيف الى هذا أن عدداً من دارسي أعمال أونيل رأى فيها ملامح من بعض سيرة كاتبها الذاتية؟ لا يهم. المهم أن المسرح الأميركي ولد مع هذا العمل البسيط. > مسرحية «ما وراء الأفق» التي دارت خلال العام الأول من عرضها على مسارح نيويوركية عدة، انتهى بها الأمر في ذلك العام الى الحصول على جائزة بوليتزر المسرحية، وهي لم تتوقف عن العرض منذ ذلك الحين بل إنها حُوّلت ذات عام الى أوبرا. ولئن كانت المسرحية تدور أحداثاً في مكان واحد هو مزرعة آل مايو، فإنها تتنقل زمنياً بين فصولها الثلاثة حيث تبدأ في ربيع عام أول، هو الزمن الراهن في ذلك الحين، لتنتقل في الفصل الثاني الى الصيف بعد ثلاثة أعوام، أما في الفصل الثالث والأخير فإن الأحداث تدور في الخريف بعد الفصل الثاني بخمسة أعوام. وبالتالي، خلال تلك الأعوام الثمانية التي تستغرقها المسرحية، لا تحدث تغيّرات كثيرة ولا حتى في الشخصيات، ما عدا أن ربّ أسرة مايو سيموت من دون أن يترك رحيله أي أثر يذكر، وكذلك الأمر مع الطفلة التي تولد من زيجة تشكل محوراً في المسرحية. ولنوضح هنا هذا كله: محور الأحداث هو الأخوان روبرت وآرنولد مايو من ناحية، وجارتهما الحسناء روث آتكنز من ناحية أخرى. الأخوان معاً مغرمان بروث من دون أن يعرف واحدهما عن غرام الآخر شيئاً. ولاحقاً، سنعرف أن لروث خيارها بينهما، لكن ذلك سيكون في علم الغيب أول الأمر حين يطالعنا روبرت وهو يبدي رغبته في أن يرافق عمه القبطان في عمله على سفينة، في وقت يرى آرنولد أنه يفضل أن يبقى مع العائلة للاهتمام بالمزرعة... والواقع، أن قرار روبرت إنما كان نابعاً من يأسه من أن يلقى تجاوباً من روث. لذا ما إن يشعر ذات لحظة بأنها تفضّله على أخيه، حتى يصرف النظر عن مشاريعه ويقرر البقاء. فلا يكون من آرنولد إلا أن يتخذ قراره بالذهاب مع عمه ليجوب البحار. > تتزوج روث من روبرت ويرحل آرنولد، وبعد حين يموت والد الشقيقين، ما يلقي على روبرت كل الأعباء العائلية فيبدو عاجزاً عن القيام بها، ليزيد من بؤسه يوماً أن روث تصارحه بأنها إنما كانت تفضّل الزواج من آرنولد، إذ كان هذا من اختاره قلبها.. ويستبد الحزن والغضب بروبرت، ما يفاقم أزمته المتواكبة مع بؤس عام طاول أحوال المزرعة وحياة العائلة. وهنا يعود آرنولد ثرياً الى المكان ليخبر روبرت بأنه في الحقيقة قد شُفي من حبه لروث. وحين تعلم هذه بما قاله لأخيه تجن من الغضب. وبعد حين، تفقد روث وروبرت طفلتهما، ما يجعل هذا الأخير زاهداً بالحياة ويصاب بداء السل الذي سرعان ما يقضي عليه حتى قبل عودة أخيه الذي يصل متأخراً... فلا يجد أمامه إلا روث الغارقة في حزنها وحيرتها، ليكتشف أنها عجزت حتى عن أن تنفذ وعداً كانت قطعته لآرنولد بأن تخبر روبرت المريض بأنها أحبته لعل ذلك يخفّف من ألمه قبل الموت! > ولسنا في حاجة هنا الى تكرار أن أونيل يعتبر الى جانب تنيسي ويليامز وآرثر ميلر، وقبلهما أحياناً، أعظم كاتب مسرحي أنجبته أرض أميركا الشمالية خلال القرن العشرين. ولعله الأكثر حيوية وتنوعاً بين الكتّاب الأميركيين على الإطلاق. فنحن إذا قرأنا مسرحياته العديدة وتفرسنا في معانيها ورسالاتها، تكشّف لنا من خلالها كاتب لم يكف عن التنديد بخلو المجتمع الأميركي، وربما المجتمع الإنساني في شكل عام، من القيم، كما من التنديد بالروح المادية المسيطرة على قرننا العشرين هذا. ومع ذلك، لم يكن أونيل كاتباً طوباوياً خيالياً يسعى الى البحث عن عوالم أفضل. كان بالأحرى من أكثر كتّاب أميركا واقعية، وواقعيته هذه طبعت الأدب الأميركي في طول القرن العشرين وعرضه، بحيث لن يكون من الخطأ القول أن «واقعيات» تنيسي ويليامز وكليفورد أوديتز وآرثر ميلر، إنما ولدت من رحم واقعيته. > وكان يوجين أونيل الى هذا، أكثر كتّاب المسرح الأميركيين ترجمة الى اللغة العربية، إذ إن معظم مسرحياته ذات الفصول الثلاثة، وبعض مسرحيات الفصل الواحد، عرفت على الدوام طريقها الى لغة الضاد وكان لها حضورها في الحياة المسرحية العربية، في بغداد كما الكويت، وفي دمشق كما بيروت. > ولد أونيل في العام 1888 في مدينة نيويورك، لأب كان ممثلاً مشهوراً في زمنه، ويوجين - على عادة كبار الكتّاب والمبدعين الأميركيين - خاض العديد من المهن المتنوعة قبل أن ينصرف الى الكتابة، حيث نراه في صباه بحاراً وبائعاً ومنقباً عن الذهب في أقاصي الغرب الأميركي. وبعد ذلك، نراه في شبابه صحافياً لامعاً، قبل أن يقرر ذات يوم اقتفاء خطى أبيه والعمل كممثل مسرحي. وهكذا وجد الشاب نفسه في خضم الحياة المسرحية، حيث تضافر لديه حبه لهذا الفن مع تجاربه الحياتية المتنوعة وحبه للأدب، لينتج هذا كله ذلك الكاتب الذي سينال في العام 1936 جائزة نوبل الأدبية، فيكون واحداً من قلة من كتّاب المسرح نالوها. لكن قبل الحصول على نوبل، كان لا يزال على أونيل، أن يكتب ويثبت مكانه في عالم الكتابة، وكانت بدايته الحقيقية في هذا المجال حين انضمّ الى المسرح الاختباري في 1916 برفقة ممثلي فرقة «برنستاون»، وهناك كتب أولى مسرحيات الفصل الواحد التي اشتهرت في ما بعد مثل «اقفز شرقاً الى كارديف» (1916) و «قمر الكاريبي» (1918). غير أن بدايته الكبيرة الحقيقية كانت مع مسرحية «ما وراء الأفق» التي تعتبر أول عمل مسرحي درامي أصيل كتب في الولايات المتحدة الأميركية بعدما كان المسرح، في ذلك العالم الجديد، مطبوعاً بالتهريج والتبسيطات الجماهيرية والنسخ عن المسارح الهزلية الأوروبية، ولقد اتسمت «ما وراء الأفق» بطابع واقعي - طبيعي طغى على معظم أعمال أونيل بعد ذلك، حتى وإن كانت روايته الثانية «الإمبراطور جونز» جاءت تعبيرية الاتجاه، في تحدّثها عن صعود إمبراطور زنجي وسقوطه في واحدة من جزر الهند الغربية. في العام 1921، عاد أونيل الى أسلوبه الواقعي في مسرحية «آنا كريستي» التي وصف فيها حياة فتاة ليل وتوبتها عند ميناء نيويورك. ومن أبرز مسرحيات أونيل في تلك الحقبة الفنية من حياته نذكر: «القرد الكثيف الشعر» (1922) و «رغبة تحت شجرة الدردار» (1924)، وهي مسرحية اقتبستها السينما مرات عديدة. > أما المرحلة التالية من عمله، فقد خصّصها لانتقاد هيمنة القيم المادية على مجتمع اليوم، وعبّر فيها عن مرارة شديدة وسط قوالب شاعرية متميزة، ومن أبرز نتاجات هذه المرحلة: «النبع» (1925) و «الإله العظيم براون» (1926) و «اليعازر يضحك» (1927). غير أنه بعد ذلك، عمد الى سلوك منهج تجريبي تجلى في بعض نصوص اتبعت أسلوب تيار الوعي، كما حاول الاقتباس من المسرح اليوناني («أوريستيا» التي جعل أحداثها تدور بعد الحرب الأهلية). أما العقود التي تلت فوزه بجائزة نوبل، فقد أنتج فيها بعض أعظم أعماله وأكثرها تنوعاً مثل «الكوميث الثلجية» و «رحلة الليل الطويلة الى النهار»، وغيرهما، من أمثال تلك الأعمال التي رسخته كاتباً كبيراً وجعلت النقد يعتبره الاستمرار الطبيعي للسويدي سترندبرغ والنروجي إبسن، ويجعل له مكانة أساسية في تاريخ المسرح العالمي لا المسرح الأميركي وحده.
مشاركة :