«ماما، بابا مجروح» لإيف تانغي: السوريالي يكتشف الرعب باكراً

  • 9/15/2016
  • 00:00
  • 29
  • 0
  • 0
news-picture

من المؤكد أن الشاب ذا الاثنين والعشرين عاماً، والذي كان قد عاد من الجبهة منذ فترة لا تكفيه لنسيان أهوال الحرب وما اكتشفه بعد انتهائها من ولوج الكون عالماً جديداً يختلف جذرياً عما كان قد سبق له ولمجايليه أن عرفوه، ذاك الشاب كان يحب الرسم حتى من دون أن يعرف أنه قادر عليه، ولا أنه سيصبح رساماً ذات يوم. كان في ذلك الحين يعيش مع رفاق منهم الشاعر ومنهم الروائي ومنهم الرسام والمولع بالسينما، أما هو فلم يكن يعرف طريقه بعد. لكنه ذات يوم، وحين كان يمر أمام مدخل معرض لبيع اللوحات، شاهد في الواجهة لوحة سحرته. عرف أنها لفنان إيطالي يدعى جورجيو ديكيريكو. سيقول لاحقاً أنه منذ تلك اللحظة، قرر أن يصبح رساماً. وقرر أنه سيرسم على منوال ذلك الأستاذ الإيطالي الذي رأى لديه نوعاً من فن يلتقي مع ما كان اكتشفه لدى رفاق له من مرتادي الحلقات السوريالية من رعب أمام آفات الحضارة الحديثة ومن ربط بين الحلم والفن. ولما كان جاك بريفير واحداً من رفاقه، لم يكن أسهل عليه من أن يرافقه في جلسة سوريالية بزعامة أندريه بريتون. لكنه آثر قبل ذلك أن ينفذ بعض اللوحات، فاستغرقه الأمر سنوات قليلة قبل أن يفعل ليولد بذلك واحد من أكثر رسامي الحركة السوريالية التصاقاً بها وتعبيراً عنها: إيف تانغي. وستكون لوحته «ماما، مجروح» إحدى أولى اللوحات التي ربطته بالمجموعة ومن أولى لوحاته على أية حال. > طبعاً، لن يكون من المجدي البحث في اللوحة عن «ماما» أو عن «بابا» ولا حتى عن ذلك الطفل، كما يُفترَض، الذي يذيع هذا الخبر المحزن. وبالطبع لم يفعل أحد ذلك. حتى وإن كان كثر من الباحثين في تاريخ الفن، ومن دارسي حياة تانغي وعمله، قد انكبوا على اللوحة طويلاً يحاولون أن يفكوا شفراتها ويدرسوا معناها أو معانيها. كل ما توصلوا إليه، في أحسن أحوالهم، هو أن تلك المرحلة المبكرة من المسار الفني لتانغي كانت مطبوعة بأساليب ديكيريكو، لكن عبر تجاوز هذا الأخير في الحرص على تصوير المساحات الواسعة والظلال المرعبة والأشكال الغريبة التي حتى على مستوى الرمز والكناية ليس من سبيل الى التعرف الجدّي عليها. ومن هنا، لم يفت الباحثين أن يلاحظوا أنه في وقت كان عمل ديكيريكو يتحلق من حول أشخاص ورموز مكانية وزمنية يمكن التعرف عليه بسهولة، بات هذا مستحيلاً لدى تانغي. بل إن العنوان نفسه - والعنوان يخدم عادة في توضيح السياق - جاء هنا ليزيد الغموض غموضاً. صحيح أن لدينا مكاناً محدداً هو شاطئ بحر وسماء وما يشبه الضباب آت من يسار اللوحة، ولدينا مُلوَّنة بديعة، لن يتخلى الفنان عن ألقها حتى في أكثر لوحاته إثارة لليأس والرعب، لكن ماذا بعد هذا؟ ما هي تلك الأشكال الموزعة في الحيز الفسيح؟ هل هي كائنات حية وأصداف؟ هل تعيش رعباً إزاء ما ينتشر من حولها؟ أم تراها تشكل جزءاً من مشهد معتاد تتعايش معه، أو باتت تتعايش معه إذا نحن أخذنا في اعتبارنا فكرة الصيرورة التي كانت تعني الكثير للسورياليين؟ لا شيء يبدو في الحقيقة واضحاً. بل إن الرسام نفسه لم يزعم يوماً أنه أراد أن يقول بهذا أية أمور تفصيلية. سيقول، لكن من رأس لسانه، أنه أراد فقط أن «يعبّر» عن شرط إنساني ما، من دون أن يعني ذلك أنه أراد أن يصوره. أما حين سئل إلامَ ترمز تلك الكائنات، دُهش وقال أنه ليس رساماً رمزياً. ومن هنا، اكتفى محدثوه بتلقي الإحساس العام الذي تثيره اللوحة فيهم ونسوا «الأب الجريح» و»الطفل الصارخ» وما الى ذلك. وسيكون هذا دأبهم مع أعمال تانغي التالية. > فأعمال تانغي بدت دائماً حاملة رعباً صارماً حتى من قبل تحوّلها الى أعمال عن التخوم، وحتى قبل أن تضحي تخوم المدن ثورة لها علاقة بالمشاكل المستعصية على الحل في بلدان العالم، المتقدم وغير المتقدم: من مشاكل المستبعدين الى مشاكل الشبيبة والبطالة والمخدرات وأوقات الفراغ. كان ذلك حين كانت المدن لا تزال مدناً والتخوم تخوماً والضواحي ضواحي. وقبل أن يكتشف تانغي سطوة المدن العملاقة ووحشيتها. ويكتشف المسافة التي تفصل إنسان العصر عن المدينة وتضعه خارجها، مهما كانت علاقته بها. > لا يعني هذا الكلام بالطبع، أن إيف تانغي جعل من لوحاته مرآة لنظرة اجتماعية ما، أو مادة للتفكير في الذي سيجرّه المستقبل. بل إن الرجل لم يكن صاحب فكر سياسي أو اجتماعي في أي حال من الأحوال. كل ما في الأمر، أنه عرف كيف يعبر، في العديد من لوحات واحدة من أكثر مراحل حياته نشاطاً وازدهاراً، عن علاقة الفرد بالمدينة، وليس بالمعنى الانطباعي القديم الذي قام على التغني بالمدن، او بالمعنى الحداثي الذي صنّم المدينة واعتبرها ضحية لهجمة الريف، بل بالمعنى الأهدأ، معنى طغيان المدينة كجر ومبان ومربعات وأشكال هندسية متوحشة تهاجم الإنسان/ الفرد في عقر حميميته. > ولد إيف تانغي في العام 1900 في باريس، ليموت بعد ذلك بخمسين عاماً في ولاية كونكتيكت الأميركية، هو الذي عاش، في جسده وفي هواه، خارج فرنسا على الدوام، إذ إنه بعد اكتشافه إنكلترا مبكراً زار طوال صباه العديد من البلدان الأوروبية والأميركية والأفريقية قبل أن يعود للاستقرار في باريس اعتباراً من بداية سنوات العشرين، مقيماً في قصر مع أصدقاء كان تعرف بهم خلال خدمته العسكرية، ومن بينهم الشاعر جاك بريفير. وكان بريفير هو الذي عرفه على السوريالية وأهلها كما ذكرنا أعلاه، لكن المفارقة تكمن في أنه إذا كان بريفير قد ظل واقعياً في شعره يهتم بتفاصيل الحياة اليومية والعلاقات بين بشر من لحم ودم، غَمُض فن تانغي مع الزمن أكثر وأكثر الى حد دفع النقاد الى الكف عن سبره مكتفين بتلمّس جماله ومناخه المفرط في حداثته. > تميّزت لوحات تانغي الأولى بحس ساذج وبنكهة شعبية (على حد تعبير واحد من الذين أرّخوا لسيرته الفنية)، فهو رسم أول ما رسم مناظر باريسية ومشاهد مستقاة من حياة الشارع، فكانت المدينة، من الداخل، حاضرة في أعماله منذ البداية. وهذا ما أخّر، على رغم إلحاح جاك بريفير، انخراطه في جماعة السورياليين. لكن هذا الانخراط إذ حدث لاحقاً عزز من اكتشافه نزوعه نحو الرسم التلقائي والتعبير العفوي تحت تأثير رفاقه الجدد التالي. غير أن ثورته «التلقائية» تلك سرعان ما هدأت خلال السنوات التالية وراح يرسم لوحات تتسم باتزان داخلي، بل بنوع من الرومانسية الحزينة. ويبدو أن هذه الرومانسية هي التي أخذت تقود حياته الى خارج المدن، وجعلت لوحات مرحلته التالية (1930 - 1931) تتسم بمساحات واسعة تنتهي إما الى مفازات، وإما الى أشكال في الأفق غير إنسانية. والحال أن تلك الأشكال هي التي اتخذت بعد ذلك، وبالتدريج، شكل المدن الهمجية تفصلها عن عين الناظر إليها (الرسام أو المتفرج) تخوم الفراغ والخوف والقلق. > هذه النزعة القلقة إزاء المدينة تكثفت لديه، بالطبع، اعتباراً من 1939 حين وصل الى الولايات المتحدة، عابراً كندا، ليقيم في شكل نهائي في مدينة وودباري بولاية كونكتيكيت. وهو في اللوحات التي حققها في تلك المدينة، والتي كانت في مجملها لوحات تستخلص تجاربه السابقة لا سيما تجارب علاقته مع المدن وتخومها، وصل الى أقصى درجات نضجه، بخاصة أن العزلة النسبية التي عاش فيها أبعدته هناك عن كل نشاط جماعي لتضعه وحيداً، كشخوص لوحاته كافة، في مواجهة البعيد والمنفصل واللاإنساني. وهذا ما عبرت عنه في شكل خلاق لوحتاه الأخيرتان «تعددية الأقواس» و»الأرقام الوهمية» اللتان حققهما قبل عام من رحيله. ففي هاتين اللوحتين، راكم إيف تانغي كل ما يخيفه من حجارة ومبان، في شكل جعل فنه يبدو كأنه ناقوس الخطر الأخير يدق ضد الهمجية القادمة، همجية التخوم والآفاق المسدودة، التي ما لبثت أن غزت العالم، ولا تزال، بعد موت إيف تانغي بفترة من الزمن.

مشاركة :