حاولت في المقالين السابقين إيضاح معالم رؤيتي للتحرر الليبرالي، وجاء الكلام فيهما اشتباكاً معرفياً مع التجاذبات النظرية التي تشغل أذهان المهتمين بهذا المجال الحيوي المتجدد دائماً وأبداً. لهذا جاء الكلام تنظيراً يُحيل إلى أفكار ومفاهيم ومصطلحات يعرفها القُرّاء المحترفون، بينما تستغلق على غيرهم -قليلاً أو كثيراً-. يُجادِل/ يُشاغِب التقليديون على الليبرالية بزعمهم أن الحرية موجودة في كل المذاهب، أو في معظم المذاهب، ومن باب أولى، هي موجودة في الإسلام، فلماذا تدعي الليبرالية احتكار التنظير للحرية، ولماذا تدعي الليبرالية أن التأكيد على الحرية هو ما يميزها عن غيرها؟ وسأحاول في هذا المقال أن يكون الكلام عاماً/ جماهيرياً/ شعبوياً، قدر ما يحتمله الموضوع؛ لأن أولئك الذين يقرأون عن الليبرالية في المراجع العلمية المتخصصة غير المؤدلجة، لا يحتاجون إلى إيضاح مثل هذه الأبجديات التي ناقشناها وسنناقشها في مسألة حدود الحرية الليبرالية. لهذا، سأحاول إيضاح الواضح -ببعض الأمثلة- لأولئك الذين لا يقرأون، أو لا يقرأون إلا قليلاً، وقراءاتهم إن وُجدت -على قلتها- تبقى محصورة في مقالات/ مُلخّصات/ منشورات/ كُتَيّبات الصراع الإيديولوجي التقليدي مع الليبرالية؛ فتكون متخمة بالجهل الفاضح، والتناقضات الصارخة، والتدليس الغبي، والهجاء الإيديولوجي المشحون بالتضليل والتفسيق، وربما التكفير. لا يُخاطب وُعّاظ التقليدية جماهيرهم البائسة إلا بما يُهيّجهم عاطفياً؛ لأن الطريق إلى عقل العامي البليد معرفياً، لا يمكن أن يكون إلا من خلال عاطفته الدينية والاجتماعية المتأججة. يقول الوُعّاظ التقليديون لجماهيريهم في تعالم مخادع: صحيح أن الليبراليات في كل دول العالم لا تُطلق للحرية عنانها بالكامل، ولكن، لا يستطيع أي ليبرالي أن ينكر أن الحرية المطلقة هي أصل الحرية الليبرالية التي يدعو إليها. وبالتالي –وفق طرح التقليديين التدليسي– فكل الليبراليات تسعى إلى الحرية المطلقة؛ لأنها هي الأصل الذي تصدر عنه تفاصيل النظرية الليبرالية. لا ريب أن كلام الوعاظ هنا، أوله صحيح، وآخره كذب صريح، أو جهل فاضح. إن التقليديين يستغلون الصحيح فيه؛ لتركيب الجهل الفاضح، أو الهجاء البُهتاني عليه. نعم، الأصل في الحرية الليبرالية -الأصل الذي تتشرعن به نظرياً- أنها حرية مطلقة بلا حدود؛ لأن الإنسان وُجد –طبيعياً/ في الطبيعة- حُرّاً. ولكن، هذا لا يعني أن الليبرالية تسعى لذلك، بل ولا أن هذا ممكن أصلاً، لأن الحرية الطبيعية تعني الحرية الوحشية، هي تأكل الحريةُ الحريةَ؛ فينتج عن ذلك الأسر الطبيعي التام. وللتوضيح أكثر؛ أقول: لا غرابة في تأكيد الليبرالية على الحرية المطلقة؛ كنقطة انطلاق نظرية، فالإسلام يؤكد على هذه القاعدة المبدئية نظرياً: الحرية المطلقة. عند الأصوليين أصول الفقه، لا الحركات الأصولية، نجد تلك القاعدة الأصولية التي يكررها علينا الشرعيون باستمرار، وهي أن الأصل في كل شيء الإباحة، مؤكدين أن المباح لا يحتاج إلى دليل؛ لأنه هو الأصل، بينما المُحرّم هو الذي يحتاج إلى دليل؛ لأنه خروج عن الأصل: الإباحة العامة. وهنا، هل يجوز لأي أحد أن يقول إن الشرع الإسلامي يُبيح كل شيء؛ لأن الأصل فيه الإباحة ؟!. طبعاً، لا يقول بهذا أحد، فالكل يعلم أن التأكيد على أصل الإباحة مبدأ نظري فقط؛ لضبط أصول التحريم الاستثنائي. هنا، يعود الوُعّاظ -متراجعين قليلاً-؛ فيقولون: صحيح أن الحرية الليبرالية مُقيّدة، ولكنها مقيدة فقط بما لا يَضُرّ بالآخرين، أي أن الإنسان حر أن يفعل ما يشاء؛ ما دام لا يضر بالآخر. وهذا صحيح مبدئياً أيضاً. لكن، يبقى السؤال الأهم، السؤال الإشكالي: ما هي حدود الإضرار بالآخرين؟. كلنا ندرك أنها ليست مجرد حدود الاعتداء المباشر، المادي أو المعنوي، بل هي أوسع من ذلك بكثير. إن حدود الإضرار بالآخرين غير محددة أصلاً في كل زمان ومكان، بل هي إشكالية، من حيث هي نسبية وظرفية؛ لأنها حدود ثقافية، أي تصنع الثقافة بما فيها الدين معالمها وآفاقها، فإذا كانت ترجع إلى أسس إجماعية في دين ثابت، بقيت ثابتة، وإن كانت خِلافية، أو في دين متحول؛ أخذت في التَّحوّل والتَّبدّل فوق مقتضيات الحال، الحال الإنساني والحال الواقعي. أظن أن هذا واضح. لكن، مع أنه واضح، إلا أنني سأمعن في التوضيح والتبسيط بالأمثلة، بل وبالصور الساذجة أحياناً؛ ليدرك العامي البسيط ملامح الصورة. يقول التقليديون: إن الليبراليين لا يضعون قيداً على الحرية إلا حدود الإضرار بالآخرين. والحقيقة أن الثقافة هي التي تصنع رؤيتنا لمفهوم الضرر. فمثلاً -وسأختار من الأمثلة ما يُشكّل هاجس الإنسان التقليدي-، لو أن إنساناً اختار بحريته أن يمشي عارياً في شوارع لندن أو باريس أو نيويورك، هل سيُسمح له بذلك، لو وقف هذا الإنسان العاري تماماً في المطار أو ركب الطائرة...إلخ، هل سيُسمح له بذلك، مع أنه –من حيث المبدأ التقليدي– يمارس حريته الشخصية التي لا تضر بالآخرين؟. طبعاً، جميعنا يعلم أن المجتمعات الليبرالية لا تسمح بذلك، وترى في هذا السلوك اعتداء صارخاً على الفضاء العام الذي هو حق للجميع. ومن ثم، فهذا السلوك/ التعري في الفضاء العام هو عدوان صريح -ولكن غير مباشر- على الجميع، عدوان يعاقب عليه القانون، لاختراقه الآداب العامة الصادرة عن المواضعات الثقافية التي ارتضاها الجميع -وهي مواضعات ثقافية تشكلت بفعل عوامل كثيرة، ليس الدين المسيحي بمعزل عنها-. ما يعني أن مثل هذا السلوك ليس خياراً فردياً، رغم أنه لا يشكل عدواناً مباشراً من أحد على أحد. إذا جئنا إلى المجتمع المسلم، نجد أن الإسلام حاضر بقوة في تشكيل الرؤية الثقافية. مثلاً، لا يمكن أن يَصدر في مجتمع مسلم قانون نظام يُبيح الزنى، ويجعله مشروعاً/ مُشرّعاً. لكن –وهنا تأتي التفصيلات الثقافية، فالقانونية– هناك فرق بين تجريم الزنى، وبين فرض قوانين مراقبة اجتهادية تدعي الوصاية على السلوكيات العامة التي تكون –من حيث الأصل– مباحة؛ بدعوى سد الذرائع. فالأنظمة التي تحاول ضبط الاختلاط، أو ضبط حدود وظروف الخلوة...إلخ، كلها اجتهادية، بمعنى أنها ليست من الأصول القطعية، كما هو الأصل القطعي في تحريم الزنى. وبالتالي، فمثل هذه الأنظمة الاجتهادية تخضع للتنازع المستمر بين أصحاب الرؤية الليبرالية، تلك الرؤية التي تمنح الإنسان الفرد حرية مسؤولة، وبين أصحاب الرؤية المحافظة التزمتيّة التي ترى أن تفاصيل تصرفات الأفراد، يجب أن تبقى تحت رقابتها الصارمة التي تشكل هوية المجتمع الوصائي. أيضاً، يُجادِل/ يُشاغِب التقليديون على الليبرالية بزعمهم أن الحرية موجودة في كل المذاهب، أو في معظم المذاهب، ومن باب أولى، هي موجودة في الإسلام، فلماذا تدعي الليبرالية احتكار التنظير للحرية، ولماذا تدعي الليبرالية أن التأكيد على الحرية هو ما يميزها عن غيرها؟. والحقيقة أن لكل مذهب أو توجّه بوصلة اهتمام أساسية، تميزه عن غيره، فالحرية الفردية هي بوصلة الاهتمام الليبرالي. ولكن، لا يعني هذا أنها لا توجد عند الآخرين. إنها موجودة -بقدر ما– عند كل تيار فكري، ولكنها في الليبرالية أولوية، وعند الآخرين مفردة من مفردات الخطاب. إن تمحور الأطروحة الليبرالية حول الحرية الفردية هو ما يميزها، كما أن العدالة الاجتماعية هي ما يميز الاشتراكية مثلاً. ففي الاشتراكية نجد إرادة تحرر، تُعانق –في النهاية؛ كما تدّعي نظريا– التحرر الفردي، ولكنها تعترف أن هذا التحرر الفردي ليس هو محور اهتمامها. ومن هنا، تميزت الاشتراكية بالتمحور حول شيء، ليس هو محور اهتمام الليبرالية، والعكس صحيح، ومن هنا تمايزتا. ولمزيد من توضيح الواضح نقول: إن التأكيد على الحرية الفردية موجود في معظم المذاهب والتيارات والأديان، ولكن الليبرالية تجعل من هذه الحرية الفردية بؤرة اهتمامها، بل هويتها التي تميزها. وإذا كان كل ما تقدّم يشير إلى أن الحرية الليبرالية نسبية، وظرفية، ومتحولة، فهذا يعني أن حدود الحرية الليبرالية ليست محددة سلفاً. وهنا، سيخرج الواعظ التقليدي علينا مُنكِراً ومُستنكراً، فيزعم أن عدم القدرة على التحديد، تعني أن الليبرالية ليست أكثر من وَهْم، أو هي طرح لا هوية له، بحيث لا يعرف أصحابه ما يريدون أصلاً. لنفهم الليبرالية لابد أن ندرك أنها توجّه عام، هي حالة، هي نزعة تحررية، وبالتالي فهي نسبية بالضرورة. فمثلاً، يُقال في الغرب: التيار الليبرالي المسيحي. ويعنون بهذا: التيار الذي يتماهى مع القيم المسيحية، ولكن بروح تحررية تعلي من قيمة الفرد. كذلك في العالم الإسلامي، يقال: الإسلام الليبرالي، أو التيار الليبرالي الإسلامي، تمييزاً له عن إسلام المتشددين، أو إسلام الكُلْيَانيين من جهة، وتمييزاً له عن ليبرالية مستغربة بالكامل، تحاول القطع مع واقعها، والبداية من درجة الصفر كما تدعي، وهذا هو عين المستحيل. وإذا كانت الليبرالية حالة، ظرفية، نسبية، فهذا يعني أنها توجد –بنسبة ما- في كل المجتمعات، وإن لم تفصح عن نفسها صراحة، وربما لا تعي نفسها. في إيران مثلاً، نجد أن الهيمنة السياسية والاجتماعية هي لرجال الدين. ومحمد خاتمي، الرئيس الأسبق، يلبس العمامة الدينية، ما يعني أنه من رجال الدين. لكن خاتمي يوصف -في إيران وخارجها- بأنه ليبرالي، فهل يعني هذا أنه يتبنى رؤية أشد التيارات الليبرالية تحرراً في الغرب، لمجرد حيازته هذه الصفة: ليبرالي؟. طبعاً لا. ومن هنا، فوصف خاتمي بأنه ليبرالي هو وصف نسبي، أي أنه استحق هذا الوصف لكونه يُمثّل اتجاهاً تحررّياً انفتاحياً داخل منظومة وِصَائية مُغلقة/ منغلقة على نفسها. ولو أن خاتمي انتقل إلى إحدى عواصم الغرب بنفس الفكر وبنفس تفاصيل الرؤية دون تغيير؛ لكان يمينياً محافظاً. إن الليبرالي الواعي لا يخترق المواضعات الثقافية/ الاجتماعية بالكامل. إنه يُعْمِلُ رؤيته من خلالها. مثلاً، لو تم تكوين لجنة من عشرة أشخاص، للنظر في السن التي يجوز للشاب السفر فيها للخارج دون إذن أحد/ ولي أمر/ وصي. عالمياً، يستقل الفرد في حدود 18 تقريباً. لو كانت اللجنة أمام الخيارات المطروحة على النحو التالي: يأخذ حريته في السفر بعمر 18/ 19/ 20/21/22، سنجد أعضاء اللجنة يختلفون وفقاً لطبيعة المرجعية الثقافية التي تحدد رؤيتهم للأشياء. الليبرالي، ومن باب تأكيده على الحرية الفردية المسؤولة، سيختار عمر 18، ويؤكد أن الفرد بمجرد بلوغه السن القانوني؛ يتحمل مسؤولية نفسه بحرية تامة. وهو إذ يؤكد هذا الخيار، لا تغيب عنه الأخطار، ولكنه يرى أن الحرية أهم، ولها الأولوية، وأن السلبيات الناتجة عنها تعالج من مداخل أخرى، لا تتجاوز حدود تلك السلبيات. هكذا سيكون اختيار الليبرالي. ولكن، في المقابل، سيختار الإنسان المحافظ سن 22، ولو كان هناك سن أعلى لاختاره؛ لأنه يؤمن بضرورة ضبط سلوكيات الأفراد، ويؤمن أن الحرية المتاحة لهم ستفسدهم بالضرورة. ولهذا رأينا في كثير من الدول الكُليانية -ومعظمها دول شيوعيية/ اشتراكية التوجه-، تجعل من عدم السفر أصلاً، ومن السفر استثناء. ولهذا، من يريد السفر من مواطنيها للخارج ولو كان في عمر 30، أو 40 فعليه أن يأخذ تصريحاً خاصاً مُعقّداً، لا يتاح إلا للقليل النادر. مثال آخر: لو تم تكوين لجنة للإشراف على معرض كتاب. هنا، ستجد أن عضو اللجنة الليبرالي لا يمنع إلا القليل النادر جداً، وربما لا يمنع شيئاً. وفي المقابل، ستجد المحافظ الوصائي يريد أن يجعل المنع هو الأصل، وأن يكون كل كتاب في المعرض يحمل تصريحاً خاصاً. وطبعاً، بين هذا وذاك، ولنسبية التوجه الليبرالي، ستجد الليبرالي المحافظ، وستجد المحافظ ذي النفس الليبرالية يقعون في المنتصف. وبديهي أن الليبرالي عندما يؤكد على ضرورة السماح بكل الكتب إلا ما ندر، لا يعني أنه يوافق على مضامين كل ما يُعرض في المعرض، بل يعني فقط، أنه يمنح الأفراد حرية مسؤولة، بحيث يُقررّون بأنفسهم الضار والمفيد، بل وأن من حقهم خوض التجربة بكل مخاطرها، فهم المسؤولون -وحدهم- عن اختياراتهم في نهاية المطاف. يمكنك أن تلاحظ في الأمثلة السابقة أن الليبرالية لم تطرح ما يناقض أصلاً دينياً مُجمعاً عليه من جميع علماء الإسلام. لن يناقش أحدهم في أصل وجوب الزكاة مثلاً، لكن، سيكون ثمة نقاش في طريقة أدائها، وفي تفاصيل خطوات الإلزام بها؛ إذا تقرر الإلزام. والمقصود أن أعضاء اللجان المتخيلة، يطرحون آراءهم في حدود الممكن دينياً وثقافياً/ اجتماعياً، وهو ممكن ظرفي نسبي. وبما أن الأمر مرتبط بالسياق الثقافي العام، فمن الطبيعي أن تكون بعض الآراء الفقهية حاضرة، ومن الطبيعي أن يختار الليبرالي أقربها إلى الحرية الفردية؛ حتى لو كان رأياً لبعض الفقهاء مقابل رأي أغلبية الفقهاء، فوجود الخلاف يعني بالضرورة أن المسألة ليست أصلاً، وأنها تمتلك فضاء تأويلاً يجعل الاحتكار –مهما كان مبرره- نوعاً من التطرف الإقصائي.
مشاركة :