الليبرالية والجمهور التقليدي - محمد علي المحمود

  • 1/28/2016
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

ليس مصادفة أن المجتمعات اليوم تنمو وتتقدم بقدر انفتاحها على التصورات الليبرالية التي يُمثّل الغرب رأس الحربة في إنتاجها وتطويرها وصناعة نماذجها وممارستها. يبدو المشهد الجماهيري العربي، من الخليج إلى المحيط، وكأنه يحكم بوضوح على أن الليبرالية تفتقد الزخم الجماهيري الذي يُمكّنها من التأثير الحاسم على مجريات الأحداث في عالمي: الفكر والواقع. بل تبدو الليبرالية في كثير من جيوب هذا الزخم الجماهيري - وخاصة الجيوب الأشد تقليدية فيه - وكأنها الخصم الأول للمجتمع الذي تحاول التموضع فيه؛ فيُجَابهها باستعصاء متشنج، تقوده المنابر الراديكالية المتجذرة في واقعه، مازجة هذا التشنج بكثير من التحريف والتزييف؛ دفاعا عن مصالح معنوية ومادية ارتبطت عضويا بمساحة هذا الجهل؛ بقدر ما ارتبطت بالمبادئ الشمولية التي تضمن لها التحكم في مجتمع بلا أفراد: مجتمع كسيح. طبعا، سيبتهج الأصوليون، والتقليديون عموما، بهذا التوصيف للمشهد الجماهيري العربي؛ وكأن هذا التوصيف ينطق – بداهة - بحكم سلبي على الليبرالية، أي كأنه يصفها بالفشل حتى قبل أن تبدأ خطواتها في الفعل على أرض الواقع، في مقابل نجاح الأصوليين/التقليديين في الحشد الجماهيري كمعيار لتحديد مستوى النجاح. هذا ما سيشعر به هؤلاء، ومن ورائهم جماهيرهم. لكن الحقيقة ليست مبهجة لهؤلاء الأصوليين/التقليديين ولا لجماهيرهم. فهذا التوصيف لا يتضمن حكما سلبيا على الليبرالية؛ لسبب واضح، وهو أن الجماهير هنا ليست جماهير مجتمعات متقدمة؛ بحيث يعكس حكمها العام حقيقة وعي تقدمي يمكن أخذه بعين الاعتبار في تحديد ما هو إيجابي وما هو سلبي في عالم الأفكار والنظريات. بل إن الذين يحق لهم الابتهاج – ولو من زاوية المعنى القِيَمي لهذا الصدود الجماهيري – هم الليبراليون، إذ - وبالعكس – يمكن رؤية هذا الانحراف/الصدود الجماهيري على أنه حكم إيجابي؛ إذا نظرنا إليه من خلال ثنائية: تقدم المجتمعات الليبرالية على تنوعها واختلاف جغرافيتها، وتخلف اللاّليبرالية، سواء كانت شمولية أصولية، أو شمولية علمانية. فليس مصادفة أن المجتمعات اليوم تنمو وتتقدم بقدر انفتاحها على التصورات الليبرالية التي يُمثّل الغرب رأس الحربة في إنتاجها وتطويرها وصناعة نماذجها وممارستها. وبالمقابل نرى بالعين المجردة – قبل الأبحاث والدراسات – كيف أن المجتمعات تتخلف، بل وينسحق الإنسان فيها؛ بقدر اعتناقها القيم الشمولية المضادة للتصورات الليبرالية على مستوى الأنظمة السياسية/الإدارية، وعلى مستوى الخيارات الجماهيرية الخارجة عن مجال سيطرة النظام والقانون. لكن، وأيا كان الأمر، تبقى الحقيقة ماثلة، وهي أن الليبرالية في العالم العربي لا تحظى بذات الجماهيرية الكاسحة التي تحظى بها الإيديولوجيات الشمولية الدينية والقومية، بل ولا بما يُقارب هذه الجماهيرية الكاسحة. لا تزال الأطروحة الليبرالية نخبوية إلى حد بعيد؛ حتى وإن كانت هذه الجماهير تعيش واقعا ينفتح على كثير من مخرجات الرؤية الليبرالية؛ حتى أصبحت لا تتصور حياتها بدونها؛ لأنها ارتبطت لديها بمعنى الحياة. فمثلا، الحريات التعبيرية التي تسمح بها وسائط/وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تتفاعل معها الأغلبية الساحقة من هذه الجماهير، هي فضاءات ليبرالية بامتياز. ويتضح هذا الأمر بصورة أكبر؛ عندما نرى ردة فعل هذه الجماهير المنحازة للإيديولوجيات الشمولية على من ينادي بحجب هذه الوسائط أو الحد منها لأسباب مختلفة، إذ ترفض هذه الجماهير، وبصورة قاطعة، أي تقليص لمساحات الحرية في هذا المجال الإعلامي التواصلي!. إذن، الليبرالية - كمنظومة أفكار مُعقلنة - هي التي تفتقد التأييد الجماهيري، حتى عند الجماهير المنحازة عمليا – وبلا وعي في أكثر الأحيان - لأهم مبادئ الليبرالية. وهذا الاضطراب بين رفضِ مُجمل الرؤى الليبرالية نظريا، وفي الوقت نفسه، قبول أهم المبادئ فيها (الحرية)، هو ما يجعل هذه الجماهير تُوظّف مساحاتِ الحرية التي تظفر بها لتعزيز الإيديولوجيات المتضمنة للقيم الشمولية، ولمحاربة الأصول العامة للنظريات التي تنهض عليه مبادئ الحرية والتحرر الإنساني. ولعل النشاط اللاواعي للجماهير المستلبة في دعم الشموليات الدينية والقومية المناهضة للحريات عبر فضاء التعبير الحر (تويتر)، أفضل مثال على التناقض الذي يعكس حالة اضطراب عام في وعي الإنسان الجماهيري في العالم العربي. إن هذا الانحراف الجماهيري العربي عن الليبرالية جعل الليبرالية تبدو وكأنها بلا وجود حقيقي حتى على مستوى التنظير، ومن ثم بلا مستقبل على مستوى الجماهير؛ لهذا، كثيرا ما سمعنا التساؤلات الاستنكارية التي تطرح في الحوارات الفكرية، من قبيل: هل توجد ليبرالية عربية؟ والحقيقة أنها توجد، ولا توجد!. هي موجودة كأفكار وتوجهات وشخصيات، بل وتيارات فاعلة في مجالي: الفكر والإعلام، ولكنها غير موجودة كقوة جماهيرية قادرة على إحداث متغيرات حاسمة في موازين القوى. بدهي أن هذا لا يعني أنها بلا جماهير البتة، وإنما يعني فقط، أن جماهيرها – من حيث هي أطروحة نظرية عامة تتوسل التأييد الجماهيري – لا حضور لهم؛ مقارنة بجماهير التيارات الشمولية من قومية وأصولية، هذه التيارات التي تكتسح الشارع العربي منذ أكثر من ثمانين عاما؛ ولا تزال. هذا الصدود/الانحراف الجماهيري عن الليبرالية له أسبابه بطبيعة الحال، وهي أسباب ذاتية مرتبطة بطبيعة منظومة الرؤى الليبرالية، وأسباب موضوعية مرتبطة بالطبيعة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمجتمعات التي تحاول الليبرالية التموضع فيها. وحتى لا يتشعّب بنا القول؛ يمكن اختصار هذه الأسباب بما يلي: 1 الهجوم المتواصل الذي واجهته الليبرالية منذ بدايات تسلل بعض مفاهيمها إلى العالم العربي في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وإلى اليوم، أدى دوره في تنفير الجماهير من الليبرالية ومبادئها. لقد تزعمت التقليدية الدينية الحرب على الليبرالية في البداية، ثم الأصوليات في نهاية القرن العشرين، ومع عدم إغفال دور الإيديولوجيا القومية الشمولية في تَفْقِير الواقع من كل مقومات التحرر الليبرالي؛ حتى أصبح الفرد العربي لا يفكر بنفسه كإنسان/كفرد، وإنما كرقم تائه في فضاء المجموع العربي المشتعل وجدانه بالشعارات الفارغة، فضلا عن الأوهام والأساطير. من الطبيعي أن تُصدّق الجماهير التي ترزح تحت وطأة الفقر والجهل والتخلف الاجتماعي كل ما يقوله الخطيب القومي أو الديني عن الليبرالية التي جاءت بمفاهيم لا جذور لها في عقول/وجدان الجماهير. ما يطرحه القومي والأصولي يمتاح من موروث تعرفه هذه الجماهير، إنه يخاطبها بلغتها، بتاريخها، بإحالاتٍ تعرفها، إنه يُغازل وجدانها بأساطير بطولاتها التاريخية المنغرسة في صميم وعيها؛ فيبدو مألوفا لها، ناطقا باسمها، معبرا عن همومها وهواجسها وتطلعاتها. ولهذا، تمنحه ثقتها بمجّانية وعيها المفتوح على فراغ مجاني، في مقابل ريبة وتوجس من أطروحة تحمل حتى في عنوانها/مصطلحها انتماءَها إلى الآخر، الآخر العدو أو المظنون عدوا، الآخر الجارح للذات بتفوقه الكاسح، والكاشف – في الوقت نفسه – عن تخلف ملازم يبدو كأنه قدر لازم. 2 الليبرالية غربية وغريبة. هي في الغرب، وقبل أن تكون ممارسة، كانت منظومة أفكار تمتاح من التصورات العقلانية التي وجدت قمة زخمها في عصر التنوير. وهذا يعني أنها كأفكار تنتمي إلى التنظير العقلاني لفلاسفة التنوير، والفلاسفة المُمَهّدين لعصر التنوير. المهم، أنها تنتمي إلى فضاء تنظيري نخبوي بطبيعته، فمن المعروف أن الجماهير لن تقرأ ما كتبه بنتام وهوبس ولوك وميل وفولتير وديدرو..إلخ، فضلا عن المراجعات والاستدراكات التي قام بها أفراد ومدارس وتيارات على امتداد القرنين: التاسع عشر والعشرين. وهذا ما جعلها غريبة من حيث مستواها التنظيري، إضافة إلى غرابة المصدر، حيث تنتمي إلى فضاء ثقافي مغاير، متهم بالتآمر حتى في عالم الأفكار. 3 حاول الأصوليون خاصة ربط الليبرالية بالعلمانية، بل التوحيد بين المصطلحين في الوعي الجماهيري. وبما أن العلمانية السائدة في العالم العربي هي العلمانيات المتعسكرة ذات الطابع الشمولي، فقد فقدت الليبرالية بهذا الربط المزعوم أهم ما يمكن أن يُروّج لها جماهيريا، من حيث هي بدت وكأنها نضال ضد الحرية، لا نضال في سبيل الحرية، فأصبحت الليبرالية تبدو غير تحررية/غير ليبرالية!، وفي أحسن الأحوال بدت وكأنها تخون مبادئها بانضوائها تحت مظلة أنظمة شمولية لا تحفل بالإنسان، فضلا عن أن تحفل بحرية الإنسان. إن الجماهير العربية تستمد وعيها كاملا من وُعّاظ الأصولية، ولا تستطيع البحث ولا الاستكشاف بنفسها. وهؤلاء يقولون لها: إن هؤلاء العلمانيين المتحالفين مع الطغاة هم الليبراليون. ومن هنا، تصورت - بيقين تام - أن الليبرالية هي هذه العلمانيات المتعسكرة التي تكفر بالحرية، أو هي على الأقل، هذه النخبة العلمانية المتحالفة مع الجمهوريات المتعسكرة التي تدوس على مبادئ الحرية صباح مساء. 4 غياب منجز واقعي لليبرالية في العالم العربي. صحيح أن الليبرالية وقيمها هما اللتان صنعتا هذا العالم الغربي المزدهر الذي فاض على العالم تقدما وتحضرا و..إلخ، لكن الجماهير لا تستطيع فتح آفاق وعيها على هذا العالم الذي يعكس المنجز الليبرالي بحق، هي تراه عالما متقدما لأنه كذلك، ولا تحاول – بل ولا تستطيع – البحث عن أسباب ذلك. وبالتالي، لم يبق لها إلا معاينة هذا الواقع العربي الذي ترى أن الليبراليين لم ينجزوا فيه شيئا ملموسا. وطبعا، هذا صحيح، ولكنه صحيح إلى حد ما. فعدم إنجاز الليبراليين (بصورة صريحة) هو أنهم لا يحكمون، والحكام متوجسون منهم، وهم في الوقت نفسه، لا يملكون الجماهيرية الواسعة التي يغيرون بها من واقع المجتمع. أي أنهم فقدوا أهم مؤثرين في الإنجاز الواقعي: الإدارة النافذة، والقوة الجماهيرية. عدم تحقيق الليبرالية لأي إنجاز، هو ما يبدو للجماهير التي لا تستطيع رؤية ما وراء الأحداث المباشرة، أي التي لا تستطيع إدراك أن التطورات/المنجزات الكبرى في الواقع، لم تتحقق بوعي تراثي، وإنما تحققت بقوة دفع الرؤى الليبرالية عموما. فكل الحريات والحقوق و.. إلخ التي نراها، والتي لم يكن لها وجود في واقعنا من قبل، إنما أتت بقوة سيطرة النموذج الغربي المتعولم، الذي تحتذيه - بوعي وبلا وعي – أغلبية مجتمعات دول العالم، والذي هو نموذج ليبرالي بامتياز. - وللحديث بقية -

مشاركة :