عندما أعودُ للذاكرة في الماضي غير البعيد، كان سكَّان مملكتنا -مواطنين، ومقيمين، ومتعاقدين- في حدود الثلاثة ملايين نسمة، وضيوف الرحمن من حجَّاج، ومعتمرين لا يتجاوزون المئة ألف. كانت مدينتنا المنوَّرة في منتهى الأناقة، يتولَّى نظافة الحرم النبويّ الشريف شبابُ المدينة، بإشراف الأغوات. ومرَّة كلَّ عامٍ، يشارك رئيس البلديَّة الأهالي في تنظيف الشوارع، ونقل المخلَّفات إلى خارج المدينة لإتلافها. كان الجميعُ يشارك في هذا العمل الطوعيّ، بيد كلٍّ منهم مكنسته، وخلفَهم مَن يرشُّ الأرض النظيفة بالماء. يومها كانت مزارع النخيل تحيطُ بسور المدينة المنوَّرة، وما أن ترشَّ حاراتها بالماء؛ حتَّى تفوحَ روائحُ الوردِ والياسمينِ والنعناعِ، فتنتشرُ في مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام رائحةٌ كأنَّها من الجنَّة. اليوم، وبعد ما يقارب السبعين عامًا، ازداد عددُ سكَّان المملكة إلى ما يزيد على الثلاثين مليونًا. وتجاوز عدد ضيوف الرحمن من حجَّاج ومعتمرين العشرة ملايين. هذا الخليط من البشر متعدِّد الثقافات، واختلاف نمط الحياة تسبَّب -مع تداعيات الطفرات الماليَّة في السبعينيَّات- في نوع من الترف، والاستهتار لم نعهده من قبل، وتُرك أمر نظافة المدن والقرى للعمالة المستوردة، متناسين أمرًا نبويًّا بـ»إماطة الأذى عن الطريق»، وأنَّ النظافة من الإيمان! وما يحزُّ في النفس، ما أن تنتهي المواسم الدينيَّة، والأعياد، والإجازات المدرسيَّة؛ حتَّى تتكدَّس النفايات في الطرق والحارات، وحتَّى فوق رمال الشواطئ التي صُمِّمت، ونُفِّذت، وزُيِّنت بالمجسَّمات، والجلسات المريحة؛ لتوفِّر لزوَّار الشاطئ ما ينشدونه من متعة وصفاء. يقابل هذا الاستهتار، هجمات شرسة من الناموس، والفئران التي لا ينفع معها أيّة مبيدات حشريَّة. وقد تمَّ التعاقد مع مئات الألوف من العمالة الآسيويَّة لتنظيف الشوارع، والشواطئ من الأوساخ. إلاَّ أنَّ عدم تكافؤ الرواتب لهذه العمالة، مع أبسط متطلَّبات المعيشة، جعل كثيرًا منهم يلجأون إلى الجمع بين العمل والتسوُّل. واتَّخذ النافذون فيهم نقاط عمل مميَّزة، حيث إشارات المرور، وتقاطع الطرق والأحياء الراقية، فتجدهم يدفعون القمامة من الرصيف الأيمن إلى الأيسر، وبالعكس؛ طمعًا في متصدِّق يرثي لحالهم، فينقدهم ريالاً، أو اثنين، فيزداد الحال سوءًا. وهكذا تتضاعف لدغات الناموس، وقرصات الزواحف، وتنتشر الأمراض بين الصغار والكبار، وتنشط المستشفيات، والصيدليَّات في تنظيف جيوب المراجعين، طالبي الشفاء، ممَّا أصابهم من سوء، ليصحَّ القول: «مصائبُ قومٍ عندَ قوم فوائدُ». في المجتمعات الراقية، يتولَّى «إماطة الأذى عن الطريق» موظَّفون من أبناءِ البلد أنفسهم، برتبة «مهندس بيئة»، ولا يعيبهم ذلك، ويتقاضون مقابل أعمالهم رواتب تعادل رواتب الأطبَّاء، والمهندسين، تتراوح في بعضها ما بين خمسة آلاف إلى ثمانية آلاف يورو شهريًّا، مقابل أربعين ساعة عمل أسبوعيًّا. عندما تصل مجتمعاتنا إلى مثل هذا الرقي، نكون قد سلكنا الطريق إلى الحياة الكريمة، ويحقُّ لنا -آنذاك- أن نعلن للعالم تطبيقنا أخلاق الإسلام (قولاً وعملاً). ونظافة البلد عنوان تقدُّمه ورقيِّه.
مشاركة :