لا شك أن صعود الأحزاب الشعبوية اليمينية المتطرفة في أوروبا قد ألحق ضرراً سياسياً بزعامة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. والأسوأ من هذا أن صعود حركات تنفخ في رماد الدعاية القومية المتشددة والعنصرية يشير إلى أن السياسات المتطرفة على جانبي الأطلسي تهدد روح التحالف الأوروبي الأميركي الذي ظل أساساً للحفاظ على الاستقرار العالمي على مدار سبعة عقود. وهناك كثير من العوامل القائمة التي تلقي بالقارة في أتون المد القومي ضيق الأفق، وهو ما انعكس في تصويت بريطانيا لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي وهزيمة القوى المحافظة التي تنتمي إليها ميركل على يد حزب «البديل من أجل ألمانيا» المتطرف في انتخابات تشريعية في ولاية ألمانية مهمة خلال الأيام القليلة الماضية، وفي صعود مثل هذه الحركات المتطرفة أيضاً في بولندا والمجر وفرنسا وبلدان أخرى. وهذه العوامل تتضمن رد فعل على نقل الثقل الاقتصادي والوظائف إلى الخارج بسبب العولمة وفيضان اللاجئين القادمين من سوريا ومن دول فاشلة أخرى إلى دول الأطراف في جنوب أوروبا، وكذلك هجمات العنف الإرهابي التي اقترفها «داعش» وجماعات متطرفة أخرى. ولكن هناك أيضاً عاملاً غير ملموس يستحق تدقيقاً من كثب في هذا الموسم السياسي الأميركي المضطرب. وهذا العامل يتمثل في ضعف التماسك والتأثير المتواصل الذي حققه التزام أميركا عسكرياً واقتصادياً وثقافياً تجاه أوروبا الهشة منذ عام 1945 وهو ضعف مطرد للمبدأ الأميركي بالتضامن بين الدول الذي سار في مجرى دماء الثقافة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية حين تحالف العالمان القديم والجديد لإعادة بناء قارة مدمرة ومواجهة خطر سوفييتي واضح. ومبدأ الشراكة الدولية هذا كان واضحاً في أوروبا التي كانت تداوي جروح الحروب حين رأيتها أول مرة عام 1961 وكنت أدرس وأعمل فيها، والتي بقيت أزورها من حين إلى آخر منذ ذلك التاريخ. وكانت الولايات المتحدة على كل حال دولة تفتخر بأنها ملاذ للفقراء والمضطهدين والمشتاقين إلى الحرية. لقد دعمت أميركا بالجنود والمال والدبلوماسية العامة النشطة روح التوجه الدولي واسع النطاق ضد الكراهية القومية الأوروبية المتعصبة التي أدت إلى حربين عالميتين. ومؤسسو ما يعرف اليوم بالاتحاد الأوروبي كانوا يرون في الولايات المتحدة نموذجاً يحتذى لمجتمع يريدون بناءه. والفكرة الأوروبية عن أميركا المنفتحة ساعدت في كبح نمو السياسات القومية الضيقة والمواقف المناهضة للهجرة. وهذا لا يعني الزعم بأن الولايات المتحدة نفسها تمسكت بشكل كامل بالمثالية لفترة من الوقت على الأقل ولكنها ساعدت أوروبا كي تجد طريقها، على الأقل. فالكوارث الأميركية في الخارج مثل حربي فيتنام والعراق والصراعات العرقية والاجتماعية المتواصلة في الداخل جعلت أميركا في موقف لا يؤهلها لأن تعظ الدول الأخرى. والحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية التي تثير الغثيان في هذا العام تهدد بأن تطيح بنا باعتبارنا نموذجاً يحتذى لأي دولة أخرى. ووفقاً للمعايير التي وضعها دونالد ترامب فإن الحس الوطني المحلي المتعصب الذي يستغل مشاعر الخوف في حزب «البديل من أجل ألمانيا» يمثل نهجاً سياسياً اعتيادياً وليس شراً يتعين سحقه. وقد تفوق حزب «البديل» اليميني على حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه ميركل في انتخابات المجلس التشريعي لولاية مكلنبورج فوربومرن، في منطقة شمال البلاد، الشهيرة بحوض سفنها وشواطئها الهادئة، وهي أيضاً القاعدة السياسية التقليدية للمستشارة الألمانية. وفاز حزب «البديل» بنسبة 20 في المئة في الولاية وبلغ مستوى تأييده على مستوى البلاد 14 في المئة في استطلاعات الرأي. غير أن الحزب الديمقراطي الاشتراكي الذي يمسك بمقاليد السلطة ما زال يحتفظ بقيادة المجلس التشريعي للولاية مما يجعل هزيمة ميركل رمزية إلى حد كبير. ولكن حتى الهزيمة الرمزية هذه تعرقل قدرتها على ملء الفراغ المروع في القيادة الموجود في عواصم أوروبا الرئيسة اليوم. وفي الوقت ذاته، يجعلنا ترامب نعتقد بأن المثال الأميركي يتلاشى عالمياً ويزعم أن السبب الأساسي في هذا هو السياسة «الضعيفة» التي انتهجها الرئيس أوباما. صحيح أن التقليص الاستراتيجي الذي اتبعه أوباما والإهمال طيب النوايا لأوروبا في بداية الأمر ساهم بالفعل في المشكلة. ولكن إعادة توزيع القوة الاقتصادية على المدى الطويل على مستوى العالم على حساب أميركا، وتعب الجمهور الأميركي من الحروب والتدخلات في مناطق بعيدة، يرجع بشكل أكبر إلى موروث تاريخي يتجاوز سياسات أوباما. وعلى أي حال، فإن الحلول التي يقدمها ترامب لن تؤدي إلا إلى الإسراع بتآكل تماسك التحالف. وسياسة الألاعيب التي يعد ترامب بأن يقيمها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ستجبر الدول الأوروبية الهشة سياسياً على الإسراع بإبرام صفقاتها مع موسكو. ومن الجدير بالذكر أن بوتين يعتبر بطلًا في نظر الزعيمة الفرنسية اليمينية مارين لوبن ولدى يمينيين أوروبيين متطرفين آخرين يشتركون معها في فكرة التفوق القومي والعرقي. ومن المتوقع أن يحدث تدافع أوروبي نحو موسكو وميل أكبر نحو اليمين القومي في السياسة الأوروبية إذا أُعلن فوز ترامب في نوفمبر المقبل. وسيمثل ذلك أيضاً لحظة الدفن النهائي للنموذج الأميركي الذي ساعد أوروبا على أن تكون قارة أكثر رخاء وسلاماً في النصف الثاني من القرن العشرين. * كاتب أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
مشاركة :