هناك حرب تخوضها بلادنا لم تكن واضحة المعالم ولا معينة الشخوص أو محددة بمكان أو زمان، وصفت عادة بالحرب الناعمة، وهي الحرب الإعلامية التي لم تعد ناعمة الحرب التي تخوضها بلادنا في الجبهة الجنوبية ضد المخلوع والحوثيين وإيران واضحة الإطار المكاني والزماني، والمواجهة واضحة على الأرض والعدو محدد فيزيائيا، والحرب على الإرهاب ضمن مثلث الشر الداعشي والقاعدي والفارسي رغم تشعبه وامتداده وخفاء ألاعيبه وتعقد علاقاته واضح أيضاً ومكشوف لنا على الأقل، ولذلك تظل المسألة مسألة وقت وعزيمة وإمكانات وخطط وأداء، والحرب الثالثة على المخدرات واضحة أيضاً، ونبلي فيها بلاءً محموداً وليس حسناً فقط، وحين نشاهد الملايين والأطنان من المخدرات التي ضبطها أفراد مكافحة المخدرات، وكانت تكفي لو تسربت لإدمان العالم العربي كله وليس السعودية فقط أتذكر سذاجتنا يوم كنا إلى وقت قريب نستميت في نفي أن تكون المخدرات ظاهرة في الوقت الذي كانت فيه العصابات المنظمة والدول تسعى بأقصى ما لديها إلى إدخال هذا السيل من المخدرات إلى بلادنا، وبحجم كمية المضبوطات نستطيع أن نتخيل ما تسرب منها إلى الداخل رغم الجهد العظيم والإنجاز الرائع الذي تم. هناك حرب رابعة تخوضها بلادنا لم تكن واضحة المعالم ولا معينة الشخوص أو محددة بمكان أو زمان، وصفت عادة بالحرب الناعمة، وهي الحرب الإعلامية التي لم تعد ناعمة، وإنما كشرت عن أنيابها على مختلف الأصعدة، يختلط فيها السياسي بالديني والاجتماعي والاقتصادي وتستخدم إحداها واجهة للأخرى، ففي الجانب الديني مثلاً تظهر لنا تمثلات عديدة مثل مؤتمر جروزني والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والتنظيم العالمي للإخوان المسلمين وغيرها التي تتخذ الوهابية والتطرف والإرهاب مدخلاً لهجومها، وقل مثل ذلك عن بقية الجوانب السياسية والحقوقية وغيرها. وهذه حرب ليست جديدة أشار إليها الأمير نايف ـ رحمه الله ـ قبل عقد من الزمان حين تحدث عن أن إعلامنا لا يتماشى مع حجم المملكة ومكانتها، وكنا وقتها وما زلنا نخدر أنفسنا بعبارات محفوظة، مثل لا يصح إلا الصحيح، والحق أبلج والباطل لجلج، والقافلة تسير والكلاب تنبح، في الوقت الذي يعمل فيه الآخرون بكيد للكيد لنا وبجهد لإجهادنا، والحديث ليس عن وسائل الإعلام السعودية بوصفها وسائل، فهذه تقوم بما تستطيعه وتجتهد في ذلك وفق إمكاناتها ورؤيتها، ولكني أقصد بالقول منظومة كاملة إعلامية وسياسة خارجية وإعلاما خارجيا وإستراتيجية صحيحة ورؤية مستنيرة وعملا دؤوبا، ولكي لا يكون الكلام نوعاً من البكائيات أو جلد الذات سأعرج على كل جانب وفق نماذج حقيقية وقعت. ممثلياتنا في الخارج أو بالمسمى الدقيق سفارة حكومة خادم الحرمين الشريفين في الخارج دورها أن تخدم مواطنينا في ذلك البلد وتخدم بلادنا بشكل عام في ذلك البلد، وهو دور لا أشك أنه يتحقق في كثير من السفارات بشكل جيد، ولكنه في بعضها الآخر قاصر وربما يؤثر بشكل عكسي، وسأستشهد لذلك بثلاثة أمثلة: 1 - في دولة آسيوية كبيرة يعمل أحد شبابنا السعوديين في مركز مرموق وبشهادة عالية وله وضع محترم في تلك الدولة، حاول الوصول إلى السفير ليعرض له ما يستطيع أن يخدم به بلادنا من خلال موقعه ومكانته، ولم يستطع الدخول من قبل حراس الأمن المحليين، فاتصل بهاتف السفارة ورد عليه موظف سعودي وسأله عن طلبه ومشكلته، فأجابه بأنه لا مشكلة لديه وإنما ليقابل السفير، ولم يصدقه الموظف الذي رد بأن يعرض مشكلته أو يضرب الباب، وبعد محاولات انزوى في عمله ولم يتواصل معها، مع أن السفير يعرفه أو سمع به، وكان يفترض أن يسعى السفير إليه ويطلب العون منه، ولم أذكر الأسماء حتى لا نشخصن الموضوع. 2 - قبل عدة سنوات كتبت عن قاضي حسين أحمد زعيم الجماعة الإسلامية في باكستان، وكيف تعب للحصول على تأشيرة زيارة من سفارتنا في الوقت الذي زاره في بيته السفير الإيراني، ووجه له دعوة وقدم له التذكرة والتأشيرة وكل الترتيبات للمشاركة في مؤتمر إسلامي في طهران، وكان همّ سفارتنا وقتها نفي حصول ذلك والاتصال بالشيخ للحصول منه على تصريح أشبه بطلب شهادة حسن سيرة وسلوك، ولم تهتم ببحث مكامن الخلل ووضع خطة تجاري أو تتفوق على ما تقوم به إيران وغيرها ضد السعودية. 3 - ما زالت السفارات تفتقر إلى ملحق إعلامي أو ثقافي، والموجود هو ملحق تعليمي بمسمى ثقافي، واحتفال السفارة باليوم الوطني هو فرصة للتواصل وتوثيق العلاقة والتعريف، ولكن هم بعض موظفي السفارة هو الجلوس جانبا والحش والمقارنة هل بوفيه احتفالنا أفضل أم بوفيهات السفارات الأخرى؟ أما في مجال السياسة الإعلامية الخارجية فقد تجاوزنا مرحلة الازدواجية السابقة في أن يكون لنا وجه داخلي ووجه خارجي، وهو أمر تم بسبب انفتاح الفضاء السايبروني لا بسبب اتساع الرؤية، ومع ذلك فإن إعلامنا الخارجي يفتخر بأنه فتح الباب للإعلاميين الأجانب لزيارة السعودية حتى لمن عليهم ملاحظات، وهو إن سميناه إنجازا فإنه أمر معتاد كان من المفترض أن يكون كذلك منذ زمن، إنما المهم هو وضع إستراتيجية لاستثمار الكفاءات السعودية الكثيرة والكبيرة في الداخل والخارج، ووضع برامج عمل سريعة واضحة ذات أهداف محددة وبشكل مستمر ولا تقتصر على زيارات مسؤولي الإعلام الخارجي البروتوكولية إلى الدول الأخرى، ولا على الزيارات ذات الطابع الاحتفالي التي تغلب عليها المجاملات أو تلك المرهونة بوقت معين ومناسبة معينة، بل كلما كانت أقل ضجيجاً وأكثر هدوءاً كانت أكثر فاعلية وجدوى، ولا نكون مثل إعلام بعض الدول كالطبل صوت عال وجوف خال، ولعل مبادرة الإعلام ضمن برنامج التحول الوطني 2020 تحقق ذلك، وأن نبدأ اليوم فمعناه أننا تأخرنا جداً، وأبعد الله عنا قول الشاعر عبدالمنعم عواد: ربما كان غداً أو بعد غد ربما بعد سنين لا تعد وأتساءل هل لدينا قاعدة بيانات بأسماء كل الشخصيات المؤثرة والمهمة إعلامياً من السعوديين في الداخل والخارج، والشخصيات غير السعودية المؤثرة حقيقة في كل بلد، وإذا كانت لدينا فهل هي حديثة وتحدث باستمرار، وإذا كان ذلك كذلك فهل تغذي المؤسسات الإعلامية والجامعات والسفارات والمنظمات والوزارات هذه القاعدة، وإذا كان الأمر كذلك فهل هناك فريق عمل يسعى إلى الإفادة من هذه القاعدة وتزويد الجهات المختلفة بها؟ وإذا كان كل ما سبق متحقق فهل يتم التواصل معهم؟ وهل هناك برامج فعلية حقيقية وليست مجرد فرقعات هدفها ملء التقرير بالنشاطات والفعاليات التي يصدق عليها قول القائل: تكلم كثيرا ولكن لم يقل شيئاً؟ في هذه السنة تحديداً سال مداد كثير كيماوي وإلكتروني حول مؤتمر جروزني وعمرو موسى وإيران وتركيا وتقرير الصفحات الثمانية والعشرين ومقالات ظريف في نيويورك تايمز ومشروع قرار جاستا وتقرير الأمم المتحدة حول حقوق الإنسان وأطباء بلا حدود وأمنستي وخامنئي، ومعظمها يغلب عليه الطابع الهجائي أو الانفعالي أو رد الفعل، وتحول عدد من الكتاب إلى باحث ديني ومحلل سياسي وخبير عسكري وإستراتيجي وناشط حقوقي أو نسوي، وكل زاده أن "يسنتر" ساعة عند قناتين فضائيتين ممزوجا ببعض أفكار المغردين وبعض التنظيرات، ثم ينتهي وكأنه رماد خشب العمائر لا جمر غضى أو سمر ينضج الطعام ولا يحرق الطبخة. لدينا من الإمكانات الإعلامية سواء المادية أو البشرية ما يكفي للرد على كل هذه الأكاذيب ودحضها وإبراز الجهد السعودي على كل المستويات لكنها لم تستغل، بالعكس ظهر في الإعلام من لا علاقة له به لأسباب كثيرة، منها عدم وجود منهجية إعلامية تستند على أفكار القيادة الثابتة والثاقبة حيال قضايا المنطقة. وتحول عملنا الإعلامي إلى ردات فعل للآخرين، وليس كمبادرات ممنهجة تستهدف قضايا تخصنا. ولعلي سمعت صوتا هاتفا في السحر بأن الأمور طيبة، وأن هناك عملا دؤوبا ورؤية مستنيرة وإستراتيجية موضوعة فعلا، والبرامج أخذت طريقها إلى التنفيذ، والجهود تكاتفت، والتنسيق بين كل الجهات على أكمل وجه، ولذلك كذبت عيني وصدقت هاتف السحر.
مشاركة :