عبد الله السناوي بدت سارميللا بوز، مديرة كلية الصحافة في جامعة أوكسفورد، مأخوذة بحضور الأستاذ محمد حسنين هيكل المشهد الافتتاحي لأول كلية تنتمي إلى صناعة الإعلام بأعرق الجامعات البريطانية، بأثر مما قرأت وسمعت وتابعت، غلبتها مشاعرها، كأنها لا تكاد تصدق أنه أمامها الآن. عندما طلبت منه التقدم لإلقاء أول محاضرة تذكارية في الكلية الوليدة وصفته ب الأسطورة الحية. قبل أن يصعد على منصة أوكسفورد وصفه اللورد كريستوفر باتن، رئيس الجامعة، والمفوض الأوروبي الأسبق، وآخر الحكام البريطانيين لجزيرة هونغ كونغ، وأحد الأركان الوزارية في حكومة مارغريت تاتشر ب أنه من عظماء الصحافة في العالم بنصف القرن الأخير. وفي لفتة إلى سارميللا بوز توافقها على ما ذهبت إليه في وصف الضيف القادم من العالم العربي أضاف اللورد باتن: لم يسبق لأحد أن وصفني بالأسطورة الحية، رغم المناصب الكثيرة التي توليتها والأدوار التي قمت بها، لكنني الآن يمكنني أن أترك المنصة لأسطورة حية لتتحدث إليكم. المشهد بمعانيه ورسائله محفوظ على شرائط. كان ذلك قبل عواصف التغيير التي هبت على مصر وعالمها العربي، بكل وعودها وإحباطاتها. إن إضفاء المسحة الأسطورية على البشر ينزع عن تاريخهم إنسانيته، فضلاً عن موضوعيته. في خضم الأيام الحزينة التي تلت رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، كتب في الأهرام مقالا أثار جدلاً واسعاً عنوانه: عبد الناصر ليس أسطورة. ذات مرة راجعته فيما كتب وقصد إليه، وكانت إجابته: خشيت في أعقاب رحيل عبد الناصر، والحزن عميق عليه، من إضفاء طابع كهنوتي على تجربته السياسية والتاريخية، وأن يقف على أبوابها كهان وحراس، فالتجارب الكبرى بنت زمانها، ولدت على مسارحه، وتفاعلت مع تحدياته، نجحت وأخفقت، صعدت وتراجعت، لكنها حدثت في سياق تاريخ يجري لا أسطورة تنشدها قرائح شعراء ورواة. قيمة عبد الناصر تؤكدها معاركه وقضاياه والأحلام التي حملها والمشروع الذي دعا إليه.. وهذه وقائع تاريخ لا أساطير منسوبة. لا أحد بوسعه أن ينقض تلك الفكرة، فالتجارب الإنسانية الكبرى تنسب لزمانها ومسارحه المفعمة بالصراعات والتحديات، غير أن تلك التجارب قد تلخصها في الذاكرة العامة صور ورموز، ثم بمضي الوقت تتلخص هذه الصور والرموز في بشر، يتحولون في المخيلة العامة إلى أساطير من لحم ودم، تستند إلى وثائق مثبتة ومعانٍ في الذاكرة. لم يمانع الأستاذ هيكل بتلك الإضافة في شرح التاريخ ومعناه. في مرة ثانية لم يخف انزعاجه مما سمع من شخصيات نافذة في الحكم وصفت الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، عند ذهابه إلى قرعة المونديال مدعماً لملف بلاده في استضافة المسابقة الكروية الأكثر أهمية وحضوراً ومشاهدة، بأنه: كراكيب تاريخ. قال هيكل: هذا جنون مطبق، قد يكون العمر تقدم والسلطة غادرها، ولكن وراءه أسطورة تلخص واحدة من أعظم التجارب الإنسانية في مناهضة العنصرية. إننا أمام أسطورة معاصرة والكلام عنها بالخفة جهل. فيما روي يومها أن أمين عام الأمم المتحدة الأسبق، الدكتور بطرس غالي، حاول أن يقنع الرئيس حسني مبارك بالخروج من سباق تنظيم المونديال، الذي كان مقرراً أن يكون لدولة إفريقية، ففاجأه بجملة لم يكن يتصورها: قل هذا الكلام لجمال، قاصداً نجله الأصغر. وقد كان لحضور مانديلا، بخلفيته الإنسانية والتاريخية التي تلهم وتثير العواطف، أثر كبير في فوز جنوب إفريقيا، وحصول مصر يومها على أوجع صفر في تاريخها! هناك فارق جوهري بين التفسير الأسطوري للتاريخ، وهو تفسير خرافي يزيف الوعي العام وينال من إدراك الشعوب تواريخها وقضاياها ومعاركها، وحقها في نقد قادتها السياسيين والفكريين دون إضفاء عصمة على تصرفاتهم وأعمالهم، وبين أن نطلق مثلاً على معارك بعينها خاضتها أمم وشعوب بأنها ترقى إلى الأسطورة. الأسطورة الحية - هنا - تكتسب مذاق التاريخ وتكتسي بعرقه ودمه وتضحياته. هيكل- بذات المعنى وعلى امتداده- يستحق أن يوصف بأنه أسطورة حية، على ما قالت أول مديرة لكلية الصحافة في أوكسفورد. هو ابن عصره والتاريخ لا يكرر نفسه، وقد شاءت ظروفه أن تدفعه إلى مقدمة المشهدين السياسي والصحافي في لحظات تحول عاصفة، وأن يكون شاهداً على ما جرى من تفاعلات وأسرار، وأن تتبدى مواهبه في وسط العواصف، وأن يطورها إلى آفاق جديدة بعد الخروج من السلطة، ويقال عادة إن الرجل أسلوبه، وأسلوب هيكل في العمل هو صلب أسطورته، بالمعنيين التاريخي والإنساني. هو الذي صنع أسطورته الخاصة، لم يأخذها منحة من أحد، ولا حصد ما وصل إليه من مكانة لم يحزها صحفي آخر في العالم بالقرن العشرين كله بضربة حظ في ليلة صيف. رغم أن الكتلة الرئيسية من أوراقه ووثائقه حرقت في برقاش عند الاعتداء على بيته الريفي عام (2013) إلا أن أغلبها نشره في كتبه التي أرخت للصراع على المنطقة. بطبائع الأمور فإن كل ما هو عام يظل عاماً ويخضع للمراجعة والنقد، وربما الاختلاف في محطة أو أخرى. غير أن ذلك لا يمنع من الإقرار بفرادة تجربته وعمق تأثيره في حركة الحوادث على مدى عقود طويلة، إلى حد يصعب فيه كتابة التاريخ دون الإشارة إلى أدواره الجوهرية بجوار جمال عبد الناصر في رسم السياسات العامة، وأنور السادات حتى حرب أكتوبر (1973) عندما افترقت الطرق. خارج كل سلطة اكتسب نفوذاً أدبياً ك مرجعية قومية عامة لم يحظ بها أحد آخر في التجارب المعاصرة. في (23) سبتمبر/ أيلول الماضي أتم الثانية والتسعين من عمره، لم يكن هناك ما ينبئ أن هذا هو آخر عيد ميلاد. كما هي حكمة التاريخ دائماً.. الرجال يرحلون والأساطير لا ترحل.
مشاركة :