سمير عطا الله: الهرب بالذات

  • 2/23/2014
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

كانت طفولتي في كنف جدّي، الذي كان في طيبته الفائقة، وبكل عفوية، خليطاً من رعاية الأب وقلب الأم. وفي رفقتنا كان يحلم لي أحلاماً كثيرة. وكان كلما خاف عليّ من الضعف قال ضاحكا: عليك أن تكون مثل صخرة جبل طارق. ولم أكن أعرف عمّا يتحدث، متخيلاً أنها صخرة في جبال لبنان. عندما ذهبت إلى جبل طارق بحثاً عن خطى ابن زياد، أدركت كم كان جدّي يتأمَّل بي وكم كبرت خائباً لآماله. كبرت ضعيفاً، سريع التأثر، على غير ما تقتضي الحياة ويفرض الدهر ويقسو البشر بعضهم على بعض وعلى أنفسهم وعلى الأشجار والطيور والحيوانات والفراشات. أطبقت على نفسي الأشهر الأخيرة في بيروت. صحف الصباح ونشرات المساء ومقابلات المحللين. واعتقدتُ أنني سأجد راحتي في دبي، متذكراً كتاب أنطوان دو سانت اكزيبوري، الطيار الذي صار أشهر كتّاب فرنسا «رياح ورمال ونجوم» وفيه يقول إن الجميع يكتبون عن الصحاري فلماذا لا تلتفتون إلى خضرة الواحات. ودبي واحة غير سياسية في عالم متلاطم. لكنني لم أشعر في دبي أنني بعدتُ بقدر ما أريد. ظلت عناوين الصحف نفسها، والمقالات تهذبت لكن مواضيعها وكآبتها لم تتغير. لأن المواضيع لا تتغير. لأن الصلف والقسوة والفظاظة لا تتغير. هكذا اعتقدت أنني عندما وصلت إلى نيويورك بعدت ما يكفي. وضعت حقيبتي جانباً واتجهت إلى النافذة اتأمل «السنترال بارك». إنه عارٍ في هذا الوقت ومغمور بالثلج وطرقه مفخخة بالجليد الغادر. ولكن المنظر جميل في أي حال ورؤوس الأشجار جرداء شتائية تنتظر بصبر أول هلة ربيعية. وبعد قليل أيقنت أن لا معنى للحدائق في الشتاء مهما عظمت هندستها. عدت إلى مقعدي أبحث عن محطة أشاهدها فوجدت نفسي تلقائياً افتش عن «العربية». ووقعت على «العربية الحدث» فإذا الحدث تلك الساعة هو انفجار انتحاري آخر في بيروت. تفضل غيِّر القناة يا أيها الصخرة! مددت يدي إلى «الآي باد» لأتابع المواقع اللبنانية، إضافة إلى البث المباشر. ثم أمسكت الهاتف اتصل ببعض الزملاء العاملين خارج فارق الوقت، محاولاً أن أعرف منهم المزيد! المزيد من ماذا؟ المزيد ممن؟ لا صخرة ولا حتى حصاة. ورقة هاربة في الريح ترفض أن ترى وأن تصدق. وفوق هذا الحزن اليومي العام، ذلك الحزن الحميم على غياب أنسي الحاج. كم هو قاس مشهد النعش، مهما أُغمر بالأزهار والورود. مهما أُرفق بكلمات الوداع. مهما أشفع بالأوسمة الوطنية وأحيط بالحضور الرسمي والجماهير والحزانى غير المصدقين. شعرت أنني في حاجة إلى قدريات جدّي وأبيات الشعر التي يعدها لكل مناسبة تفوق طاقات التحمُّل والتقبُّل. لست قادراً على تغيير شيء. ظلٌ ضعيف يطلّ على شجر مرتجف في السنترال بارك، على حاضر مرتجف في الأمة، على عرب عراة وبائسين ومشردين. أكتب على الواحات، قال دو سانت اكزيبوري. أين هي يا رجل؟ في أي أرض تراها؟ بأي دماء تنبت خضرتها.

مشاركة :