أعود مرة أخرى لما أكدته قبلا من أن المستوى الصحي في أي مجتمع يعتمد أساسا على حسن الاستفادة من الموارد البشرية والمالية المتاحة. دعونا نتأمل معا الفوارق الدولية التالية المستقاة من إحصاءات منظمة الصحة العالمية. • بالرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية لديها معدل أسرة، ومعدل أطباء أكثر من ماليزيا ومقدار ما تصرفه على صحة الفرد عشرة أضعاف ما تصرفه ماليزيا إلا أن معدل وفيات الأطفال الرضع في الولايات المتحدة الأمريكية أعلى. يرجع ذلك إلى عدم الاستفادة المثلى من المصادر المالية والبشرية المتوفرة لدى أمريكا. • وبالرغم من أن معدل ما تصرفه ماليزيا على صحة الفرد أقل مما تصرفه المملكة، ومعدل الأسرة فيها للسكان أقل إلا أن معدل وفيات الأطفال الرضع فيها أدنى من المملكة. • وبالرغم من أن فنلندا تصرف على الفرد في السنة نحوا من نصف ما تصرفه الولايات المتحدة إلا أن معدل وفيات الأطفال الرضع فيها نصف المعدل في أمريكا. من هنا يتضح لنا أن مستوى الصحة في المجتمع لا يعتمد على عدد الأطباء والأسرة وميزانية الصحة، بقدر ما يعتمد على أسلوب إدارة الرعاية الصحية، والإفادة المثلى من الموارد الصحية، و كيفية تحديد سلم الأولويات، و مدى تحقيق التوازن بين ما يصرف على الرعاية العلاجية والرعاية الوقائية. لا جرم أن وضع أهداف مستقبلية للرعاية الصحية تعتمد على الإحصاء الحيوي الدقيق، ومحددة بجداول زمنية، وقابلة للقياس، يعد من أهم الأولويات التي يجب أن نعنى بها من أجل التخطيط الصحي السليم. التخطيط في بلدان العالم العربي وكثيرا من بلدان العالم النامي يضع الوسائل مكان الأهداف. خذ مثالا على ذلك. المهمة الأساسية لوزارات الصحة في العالم العربي هي المحافظة على صحة السكان، والرفع المستمر من مستواهم الصحي بما في ذلك العناية بالإنسان قبل أن يمرض. وإذا ما أصابه المرض، وبعد أن يمرض وهو في دور النقاهة. لكن الواقع الفعلي يقول: إن أغلب الجهود والأموال تصرف على الإنسان بعد أن يمرض والقليل القليل منها ذلك الذي يصرف على حمايته من المرض. هذا الخلل يأتي عادة من الوهج الذي يصاحب إنشاء المستشفيات وتزويدها بالمعدات والأجهزة وافتتاحها في مناسبات تحتفي بها وسائل الإعلام. أما الوقاية من المرض فلا تحظى بمثل هذا الوهج ولا بجزء منه. هذا التحدي ــ تحقيق التوازن بين ما يصرف على الوقاية من الأمراض وعلاجها بعد أن تصيب الإنسان ــ لا يواجهنا نحن فقط وإنما هي قضية تشترك فيها دول العالم العربي.
مشاركة :