«عروبية» «جهادية» «إخوانية» .. قناة «الجزيرة» وإنقاذ «الأيديولوجيات» المحتضرة

  • 2/23/2014
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

قبل عامين مما اصطلح عليه إعلامياً "الربيع العربي"، أنتجت قناة الجزيرة فيلماً وثائقياً بعنوان "جيفارا عاش". يبدأ "الوثائقي" بأغنية "جيفارا مات" من كلمات الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم وغناء الراحل الشيخ إمام، التي تعبر عن حالة من التأبين "الثوري" في صيغة عاطفية. اللافت في هذا الفيلم الوثائقي، أن الشخصيات "البطولية" التي قدمت على أنها تسير على النسق "الثوري" نفسه، كانت هي جمال عبد الناصر وحسن نصر الله وأسامة بن لادن. حيث أظهرهم الفيلم كأيقونات شعبية قادت حركات تحررية ضد الإمبريالية الأمريكية (الإمبريالية كأبسط تعريف تعني توسع السلطة أو السيطرة الخارجية). أحمد منصور مذيع قناة الجزيرة في مظاهرة مؤيدة لجماعةالإخوان المسلمين في مصر. والحال أن ما يجمع رموز النضال "الجزيرية" هو "راديكاليتها" السياسية (الرديكالية السياسية في تعريف مبسط تعني في شكلها "اليساري" تغيير البُنى الاجتماعية باتباع أدوات ثورية، فضلاً عن تغيير الأنظمة بشكل جذري وجوهري، لا يمتنع في سبيل هذه الأهداف استخدام القمع وحمل السلاح. بينما الراديكالية اليمينية في صيغتها الدينية كما هو الحال مع حسن نصر الله وأسامة بن لادن تعني "الرجعية" الدينية). هذا السياقات "الأيديولوجية" (الأيديولوجيا تعني مجموعة أفكار مُنظِمة للرؤية السياسية للوسيلة الإعلامية أو المنظمة السياسية أو الفكرية) التي تبنتها "الجزيرة" منذ بواكير بثها، كانت أشبه ما تكون بعملية "إنقاذ تفسير الظواهر" التي لم يعد يتقبلها العقل الإنساني، بسبب ثورته الحداثية العلمية والفلسفية، لكن "الجزيرة" كانت في هذه الحالة تقوم بإنقاذ "الأيديولوجيات" المحتضرة من جماعات العنف المسلح من التيارات الدينية مثل القاعدة وحزب الله وتبنيها وشرعنة وجودها، فضلاً عن تبني تيار "عروبي" بالتوازي أكثر قدرة على مخاطبة الطبقة "التقدمية" في المجتمعات، التي لا يملك الخطاب الأصولي مفردات مقنعة يتواصل بها مع هذه الأوساط الثقافية (الإنتلجنسيا)، إضافة إلى خزان الشعارات الذي تركه التيار العروبي والناصري كإرث وحيد، بعد فشله الذريع في إقامة مجتمعات "ديمقراطية" ــ بحسب الكثير من الباحثين الذين أشبعوا هذه الحقبة نقداً جاداً وتحليلاً. في سياق متصل حول "الفكرة" وليس حول قناة الجزيرة، كتب المثقف والباحث اللبناني جورج طرابيشي في كتابه "هرطقات": "إن أحد الثديين اللذين ترضع منهما الأيديولوجيا العربية المعاصرة قد جف: النص الماركسي. وبديهي أن الإغراء كبير في التحول نحو الثدي الآخر: النص السلفي. فمن اعتاد حليب النص يصعب عليه أن يفطم نفسه عنه. ولكن قد تكون الفرصة مواتية أيضا كي ينعتق المثقف العربي نهائيا من أسر النص، وكي ينفض عنه ثوب العقلية النصية، وكي ينصرف أخيرا إلى ممارسة وظيفته الحقيقية التي هي التفكير". وبالعودة لقناة "الجزيرة" التي يرصد مراقبون انحسار مدها على مستوى العالم العربي وإعادة تقوقعها، بعد عقد من الزمان بدا فيه أن "الجزيرة" خلقت حدوداً وهمية للدولة الحاضنة لمركزها الرئيسي والممولة لها، على تماس مع كل دول العالم العربي. ما لبث هذا التمدد "الوهمي" أن انهار مع مواقفها من "الربيع العربي" الذي انحازت فيه "الجزيرة" إلى قيم الجماعة (الإخوان المسلمين)، على حساب الانحياز لقيم الدولة ومؤسساتها، خصوصاً بعد الموجة "الثورية" الثانية في مصر بتاريخ 30 حزيران (يونيو)، التي أزاح فيها الجيش المصري "الإخوان" من الحكم بعد مظاهرات شعبية واسعة، تشبه انحياز ذات المؤسسة العسكرية للمطالب الشعبية بإزاحة نظام الرئيس المتنحي حسني مبارك. ما يشرحه الكاتب والصحافي اللبناني إبراهيم العريس في حديثه لـ "الاقتصادية السياسية" بقوله "الحقيقة أن تحديد أهداف الجزيرة ومحاولاتها الدائمة لمساندة أفكار وأيديولوجيات بائدة همها تخريب العقل العربي، يجب البحث فيها الآن بالتحديد. وذلك لأن كل الأيديولوجيات التي تساندها الجزيرة إنما تسعى إلى إرباك المواطن العربي ببيعه شعبويات وحَرفِه عما هو في صالحه العام. الانحسار الحقيقي أعتقده ناجماً عن الشرخ الذي بات مؤكدا بين أجندة الجزيرة وتطلعات "الربيعيين العرب" ولا سيما في مصر. حيث إن الجزيرة إذ غرقت في الرمال المتحركة لما اقترفه الإخوان المسلمون في مصر، وتحديدا بتمويل قطري، لم يعد في إمكانها التراجع عن مواقف تقف على الضد من إرادة ملايين المصريين، وهذا ما كشفها أمام الرأي العام. لا بأس على أية حال من الاعتراف للجزيرة بأنها كانت من المساهمين في تكوينه منذ بداياتها، مع فارق أنها "كونته" كي تحقق وأصحاب قرارها أجنداتها من خلاله، وهي غير مدركة أن السحر قد ينقلب على الساحر يوماً، وأن هذا الرأي العام ما كان له أن يظل طويلا مبهوراً بشعارات شعبوية براقة سقطت فجأة أمام انكشاف المصالح والمآرب السياسية، لأن المسألة بعد كل شيء سياسية وليست إعلامية". التحفظ الفكري على السياسة الإعلامية التي تنتهجها القناة القطرية ليس موضع اهتمام إقليمي عربي فقط، بل ودولي. فمحمد العويفي الباحث الفرنسي في الإعلام العربي والبروفيسور في المعهد العالي للسياسة المعروف في باريس بـ "ساينس بو" في حوار سابق له مع صحيفة "لوموند" الفرنسية، فسر ذلك بقوله "إذا كانت الجزيرة اليوم تستطيع التواصل مع جميع الأوساط الأصولية في كل مكان وحتى في باكستان ومع القاعدة وغيرها، ذلك لأنه يوجد داخل القناة أشخاص تثق بهم قيادات الجماعات الأصولية ثقة كبيرة". ولكن بالرجوع للعريس ينبه إلى أنه "بالطبع ليس معنى هذا أن كل العاملين في الجزيرة واعون بأجندة ما في هذا المجال، ولكن بالتأكيد كلهم ينفذونها بعد أن يتم اختيارهم انطلاقا من أجندة سياسية هي في نهاية الأمر أيديولوجية، أي القوى التي تحكم دولة قطر بالفعل. وفي اعتقادي أن سبراً لكينونة تلك القوى قد يكون كفيلا بكشف الأجندة اللاعقلانية واللاتنويرية التي تبدو لي محصلة العمل التعبوي الذي تمارسه الجزيرة، والمرتبط على أقل تقدير بدورها في اللعب بملعب الكبار. وهو ما تسعى له تلك الدولة التي تريد أن تهيمن بالوسيلتين اللتين لا تملك سواهما: المال والإعلام. وهما نفس ما تحتاج إليهما القوى الظلامية التي تحاول أن تسرق ما يسمى بالربيع العربي". قناة "الجزيرة" القطرية التي باتت اليوم بعد خسارة كل رهانتها على التمدد الإقليمي، أشبه ما تكون بجندي يبحث عن معركة. أعادت في الشهرين الأخيرين ــ على ما يبدو ــ صياغة أجندتها السياسية، والتركيز على الداخل الخليجي والسعودي تحديداً. فما أبرز بوادر هذا الرصد "السياسي" للأجندة الإعلامية الجديدة ــ القديمة للقناة، التي تتخذ من قطر، الجزيرة الصغيرة الواقعة في خاصرة الخليج بحدود برية مشتركة مع السعودية فقط، مركزاً لها. عود على بدء في عام 2003 أجرت صحيفة "الشرق الأوسط" لقاء مع أحد أشهر مراسلي قناة "الجزيرة" في أفغانستان إبان الحرب العالمية على الإرهاب "القاعدي" الذي ضرب العالم من نيويورك إلى الرياض، والذي كانت القناة التي تبث من الدوحة منبره الوحيد في تلك الفترة. ولكن على عجالة قبل الرجوع لفحوى اللقاء وتصريحاته المهمة، يجب التنبه إلى أن تيسير علوني، ظهر على القناة ذاتها قبل أشهر قليلة في لقاء خاص بقناة "الجزيرة" مع أبو محمد الجولاني قائد "جبهة النصرة" الإرهابية التابعة لتنظيم "القاعدة" في سورية. على أية حال، بالعودة للقاء صحيفة "الشرق الأوسط" مع علوني، الذي رفض فيه أن يكون "مراسل مرحلة انتهت بنهاية طالبان"، أشار إلى "صراحة أن قناة (الجزيرة) بانية تميزها على أشرطة بن لادن، وعلى بعض الضربات.. بصراحة أقول لك تنكد على السعودية ومصر" ــ بحسب وصفه. ما كان يقصده في تلك الحقبة تحديداً علوني، هو إخراج القناة لمعارضين سعوديون مثل الأصولي سعد الفقيه، أو المتاجرين بقضية "الأقليات" مثل علي الأحمد وغيرهما، ممن يتعاطفون مع منظمات إرهابية، ويملكون خصومة مع النظام السعودي، لكن دون أي مشروع تنموي تنويري حقيقي. هذه الأجندة السياسية للقناة، أعادت إنتاج نفسها في ذروة الربيع العربي بوجوه جديدة، لكن أكثر تمويهاً على المضمون الأصولي في شقه الإسلامي، والراديكالي في شقه "العروبي". فتم تسريب فيديو من داخل استديوهات قناة الجزيرة لموقع "يوتيوب" العالمي للمذيع السعودي في القناة علي الظفيري، في حوار خلف الكاميرا مع الدكتور عزمي بشارة عن الموقف السعودي من حالات التمرد التي قادتها حركات "الإسلام السياسي الشيعي" في مملكة البحرين. حيث يبدي بشارة عتباً ساخراً للظفيري في حوار باللهجة العامية قائلاً له "شو؟ طلّعت كل عقدك على السعودية!". فيرد الظفيري وهو يضرب على صدره قائلاً "بيضت وجه المؤسسة، وأسمع من أخوك الصغير، لو قعدوا مية سنة ما قالوا هذا الكلام، هذا أهم شيء. بيضت وجه المؤسسة". هذا الحضور "الجزيري" الهادف لـ "تبييض" وجه المؤسسة القطرية على حساب الدولة السعودية، الأكثر ثباتاً في زلزال "الربيع العربي" الذي هز المنطقة، يعود في سياق جديد في الشهرين الأخيرين بالتمويه على الموضوعات الرئيسية التي تستهدف المصالح السعودية. فغدا الديدن الجديد لمنظري الأجندة السياسية للقناة قائم على اختيار عناوين فضفاضة عن مستقبل "الخليج"، لكنه ما يلبث أن يتحول بعد ربع ساعة إلى حوار عن أدق تفاصيل الداخل السعودي. ما يفسره المتخصص في الإعلام ووسائل الاتصال زيد الشْكِرِي في حديثه لـ "الاقتصادية" بقوله "ربما يكون أحد أهم العوامل التي أسهمت في انكفاء الجزيرة نحو الداخل الخليجي، مع التركيز تحديدا على الجمهور السعودي، هو انحسار وهجها في الدول العربية، ولا سيما فيما يعرف بدول الربيع العربي، حيث كانت الجزيرة تتمتع فيها بثقل وحضور كبيرين". ويزيد "مصر التي ربما كانت هي الميدان الأهم لحضور الجزيرة، ظهرت وسائل إعلام محلية جديدة منافسة، إذ شهدت ساحتها الإعلامية ظاهرة لافتة كانت أشبه بإحلال كامل لمشهد إعلامي جديد، تمثل في ولادة قنوات إعلامية جديدة أخذت صفة "المحلية" وذات إمكانات عالية. أسهمت هذه القنوات في تقويض وهج حضور القنوات العربية الوافدة. هذه الوسائل المحلية الجديدة تميزت بتحررها من أي ارتباط بالأنظمة السابقة، مكرسة بذلك فكرة "الاستقلالية"، كما لم يعد لديها أي محاذير سياسية حول نقاش أي موضوع، مكرسة بذلك فكرة "هامش الحرية" المتاح لديها، وهما ميزتان ظلت الجزيرة تحاول إظهار احتكارهما في السابق". يلاحظ المتابع للمشهد الداخلي السعودي الثقافي والسياسي، أن القناة القطرية باتت الحاضنة الأصيلة لـ "الإخوان الجدد" من الحركيين السعوديين الشبان، فضلاً عن الناشطين السعوديين الذين غدوا أكثر استقطاباً سياسياً من أي يوم مضى، بقناتيها العربية والإنجليزية. ولكن إلى أي مدى قد يكون مهماً هذه العودة للداخل الخليجي (السعودي) الذي غدت الجزيرة مجبرة عليه أخيراً؟ يجيب الشْكِرِي "الانكفاء على الداخل الخليجي والتوجه تحديدا إلى الجمهور السعودي، لن يكون عمليا كما كان في أواخر التسعينيات الميلادية وبداية الألفية، لأن المناخ الصحافي في السعودية قد تطور كثيراً على مستوى الهامش المتاح للطرح والتناول، إذ لم يعد هناك محاذير يمكن أن تناقشها اليوم على طاولة قناة مثل الجزيرة ولا تستطيع مناقشتها في الصحافة السعودية، وحتى ما هو غير متاح نقاشه في الصحافة السعودية هو متاح في وسائل اتصال جديدة". تشدد المبادئ العالمية للإعلام والاتصال الجماهيري على إعلاء قيمة "الميثاق الأخلاقي"، خصوصاً في ما يتعلق بما يسمى "إعلام الأزمات"، وأبرز هذه المبادئ هوharm limitation القائم على مفهوم "الحد من الضرر" في حال اشتعال أزمات قد تؤدي إلى حروب أهلية أو تؤدي إلى إضفاء الشرعية على حركات العنف المسلح السياسية. وبات الإعلام الجاد مشغولاً أكثر بالتنوير والتفكير السياسي المعقلن، الذي يهدف إلى الإسهام في حلحلة الأزمات برؤى عقلانية بدلاً من تعزيزها برؤى أصولية أو راديكالية. يزيد الشكري على هذا النسق في ختام مداخلته "اتسم خطاب الجزيرة الإعلامي في تعاطيه مع كل ما يخص مصر بإلغاء جميع الأطراف، والاكتفاء بضخ صوت الجانب الواحد One-Sided Presentation، وهو هنا صوت الإخوان المسلمين وحدهم، حتى بات من السهل ملاحظة السمة الأهم في تحديد ملامح هذا الخطاب القائم على غض الطرف عن أي جوانب سلبية قد تؤذي الإخوان المسلمين أو تضر بمشروعهم، مع التركيز على تقديم كل شيء إيجابي يدعم الإخوان ويعزز مشروعهم. وهذه ممارسة صحافية تشدد مواثيق شرف العمل الصحافي على نبذها، كما يصنفها الباحثون في حقل الاتصال كأحد أنواع الدعاية، وهي البروباغندا البيضاءWhite Propaganda القائمة على الانتقاء المتعمد والتوظيف غير النزيه للمعلومات". الأكيد أن العالم العربي لم يعد كما كان ما قبل موجات "الربيع العربي"، لكن الأكيد أيضاً بحسب الباحثين والمتخصصين الذين تحدثوا لـ "الاقتصادية السياسية"، أن العمل الإعلامي وقواعده أيضاً تغيرت. فلم يعد مقبولاً للجماهير "الثائرة" صناعة البطولات "الشعبوية" التي عانت شعوب المنطقة من مروجيها، وما زالت تعاني في طريق عودتها للاستقرار السياسي والاجتماعي.

مشاركة :