محنة العرب وبؤس الخطاب الليبرالي

  • 9/21/2016
  • 00:00
  • 39
  • 0
  • 0
news-picture

ثمة شبه إجماع في الخطاب السياسي العربي على أن العرب يواجهون منذ التسعينات محنة تاريخية قد تكون الأخطر عبر تاريخهم كله. فبين 1990 و2015 سقط العراق في قبضة الاحتلال الأميركي وأضحى دولة فاشلة تتنازعها عصابات العنف والإرهاب، ويصعب التئام مكوناتها الطائفية والمذهبية والإثنية من جديد في دولة وطنية متحررة من النفوذ الأجنبي. وبين عامي 1990 و2015 انفصل جنوب السودان عن شماله ولا تزال الحروب الأهلية مستمرة في بعض أقاليمه. وبين هذين العامين انهار الصومال وتلاشت دولته الوطنية، فيما غدت ليبيا قبائل متناحرة وقوارب مهاجرين يفرّون من جحيمها. وفي هذه الأعوام العجاف، انزلقت سورية الى حرب أهلية مدمرة، وها هي تغرق في دمائها، يهددها الإرهاب والتشظي على النسق الصومالي، والتحول الى مناطق نفوذ إقليمي ودولي ليس في حسبانه مصالح شعبها الوطنية وأمانيه القومية. وفيها كذلك بات اليمن رهينة صراع إقليمي، فانهارت مؤسساته الوطنية، وصارت أرضه ساحة لمخططات أجنبية وقتال عبثي يقطع أوصاله ويفاقم مآسي شعبه الفقير البائس. وفي هذه الأعوام بالذات يغرق لبنان في ديونه ونفاياته ويعجز عن انتخاب رئيس، فيما مصر لا تدري كيف تتدبر عيش ملايينها، يقلقها هاجس الإرهاب وشيوع الأفكار السلفية التكفيرية. ووسط كل تلك التهديدات، يبقى الإنسان العربي محاصراً بإخفاق تنموي مريب، حيث الفقر والأمية والعجز عن الانخراط في حركة العصر الإنتاجية والعلمية والإبداعية، سمات ثابتة للعرب، بينما يحطم غيرهم المستحيلات ويتطلع الى مقاربة المجهولات. إزاء هذه المحنة بكل وجوهها السلبية، يقف الليبرالي العربي خائباً مرتبكاً. يتحدث عن شيوع خطاب التكفير وغياب قيم التسامح والحوار واحترام الآخر واستشراء الخرافة واللامعقول. ويتحدث عن التنمية الشوهاء وتفاقم الفجوة الطبقية وتفكك الروابط المجتمعية وعودة القبلية كما يتحدث عن غياب المشروع القومي وتراجع خطاب الإصلاح الديني وتردي حال المؤسسات الثقافية والمجتمعات المدنية. ويتحدث عن تسلطية الدولة وتغوّلها ومصادرتها المجتمع والحريات والخير العام، كما يتحدث عن حركات الإرهاب وعقلها الظلامي وهيمنتها على أفكار العامة بعد أن تركتها الدولة لتخلفها وبؤسها ولم تأبه لقهرها وفقرها. يتحدث الليبرالي عن ذلك كله من موقعه النخبوي المتعالي على الجماهير، كأنما هو يقف خارجها وخارج الأمة، وخارج التاريخ وليس واحداً من الذين انخرطوا في محنة أمته. يطرح الليبرالي متعالياً وضع حد للفساد وهدر المال العام وتحقيق الإنماء المتوازن وإعادة توزيع الثروة، كما يطرح ترسيخ قيم العقل والتسامح والحوار والنسبية، ويقترح الشراكة في هذه المهام بين الدولة والمجتمع المدني، بإقرار سياسة تعليمية تقوم على كل تلك المبادئ والقيم، وإطلاق برنامج ثقافي تنويري شامل يرسّخ تلك الأفكار، ويعمل على إشاعتها المثقفون الذين يقع على عواتقهم أداء هذا الدور التنويري لأنهم «حملة الأفكار ومنتجوها»، ولأن الثقافة هي «الجبهة الحقيقية لإلحاق الهزيمة بعقل التكفير». جبهة ينخرط فيها علماء الدين بخطبهم وفتاويهم وتآليفهم، والإعلاميون بمقالاتهم وأبحاثهم. هذه التوصيات الطوباوية المثالية التي انتهى اليها كتاب «بين السلفية وإرهاب التكفير، أفكار في التفسير» (مركز دراسات الوحدة العربية، 2016) تمثل عينة نموذجية لتعامل الخطاب الليبرالي مع محنة العرب التاريخية، بكل ما في هذا الخطاب من هنات غير هينات، لعل أهمها توجهه الى جماهير غير ليبرالية وغير مهيأة لتقبل هكذا خطاب أو غير قادرة على ذلك. فكيف تكون الأمة على ما هي عليه وفق الخطاب الليبرالي، وكما وصمها به من تخلّف وتردٍّ وفوات، ثم يطرح عليها، وعلى جماهيرها الأمية والفقيرة والمعبأة أصولياً أفكاراً ومبادئ وقيماً قد لا يكون في إمكان المجتمعات الغربية، العريقة بليبراليتها، استساغتها وتمثلها بالكامل. لقد طرحت الليبرالية الغربية خطابها على مجتمعات تخطت الفكر الغيبي وأنجزت ثورتها الصناعية، وطرحت الماركسية خطابها على البروليتاريا التي تفاقم بؤسها ولم يعد لديها ما تخسره، فلقي الخطابان جماهير تلقفتهما، إلا أن خطاب الليبراليين العرب لا يزال يتيماً. وهنا بؤس تصوراته ومحنة مآلاته.     * كاتب لبناني

مشاركة :