في روايته الأخيرة «فهرس» الصادرة عن دار الجمل 2016 يقدم الروائي الأميركي من أصل عراقي- والمقيم في أميركا- سنان أنطون على تجربة جديدة في السرد، حيث غربة بطله «نمير البغدادي» الذي يعيش في نيوهامبشير/ أميركا منذ عام 1993، تصله رسائل من أحد معارفه في العراق «ودود عبدالكريم» بهدف ترجمتها ونشرها هناك في نيويورك بعد زيارة نمير الخاطفة لبغداد مع فريق تصوير فرنسي جاء معهم كمترجم، فصنّف ودود كل رسالة منه لنمير بمنطق ما، فجاءت جميعها مناطق في سرد عن المكان وشخصياته في شكل مخطوط يشي بلغة فصيحة أقرب لبعض كتب التراث العربي، يتلقاها نمير ويقابل بينها وحياته في أميركا. واللغة في الرواية قد تكون أداة تقنية ولكنها موضوع الرواية الرئيسي في بث الحياة في قوالب لغوية قديمة عبر مناطق «ودود»، ليكون ودود عين نمير «انطون» اللغوية في المكان الأول، وما حملته من محكيات شعبية. كما هي براعة أنطون في لغة الوصف والحوار. وهنا يصف ويسرد حال بغداد في زيارته الخاطفة: «بغداد لا تزال تتثاءب بتعب. معظم محلاتها مغمة الأعين. بعض المارة يمشون على الأرصفة، لكن الشوارع شبه فارغة. تمر بنا سيارة بين حين وآخر. والدبابات والمدرعات الأميركية جاثمة في التقاطعات. لمحت عبارة US Army Go Home مكتوبة بصبغ أحمر على أحد الجدران. انا الذي سيعود إلى البلد الذي جاء منه الـ (يو اس آرمي) ويبدو أنه سيبقى». تستمر الرواية في سرد ماضي منطق «ودود» وسط مقابل حاضر «نمير» وهو يستدعي ثقافته عبر شخصيات المكان الثاني، كمشرف أطروحته للدكتوراه والذي يحب الأدب العربي القديم وله معرفة موسوعية باللغات السامية واحد محرري موسوعة الإسلام الضخمة، وعاش فترة من الوقت في القاهرة وبيروت، لهذا هناك لغة مشتركة بين الاثنين حول المكان الأول وتاريخه. «كنت أشعر حين ازوره وأحادثه أنني أزور العراق». ويسرد نمير جانبا من حياته الخاصة هناك في أميركا، وخلافه المستمر مع صديقته السابقة ربيكا، خاصة فيما تعلّق بالعراق، لكونها تراه أمرا أصبح في الماضي ولايمكن استعادته، وهو ما يتضح في الحوارات التي جمعتهما، فتميل ربيكا نحو الحاضر والغد، ونمير متشظيا بين الماضي الذي تمثله رسائل «مناطق» ودود وحاضره كأستاذ جامعي يعمل على أطروحة الدكتوراه. ليدخل في جو الدراسة الجامعية كأستاذ للعربية للطلبة غير الناطقين به، حتى يفاجأ بالطالب «تيم» يطلب منه أن يعلمه أفعال الأمر، على غرار «اركع ! قف! ارفع يديك! ارجع إلى الوراء!» ليسخدمها كعسكري يخدم الجيش الأميركي في العراق أو أفغانستان، لكونه يدرس على نفقة وزارة الدفاع، الأمر الذي حدا بنمير أستاذ مادة اللغة العربية بالرفض ولو كانت ضمن المنهج. فيكون الموقف انتصارا للغة على أخرى، انتصار فعل الحاضر والمستقبل لا الماضي والأمر. بعد ذلك يسرد علاقته بمرايا التي بدأت بعد فضول منها حول خط مخطوط «فهرس» هل هو فارسي، وبعدما عرفت من نمير أنه سألته إن كانت العربية لغته؟ فيكون مدخل العلاقة بينهما اللغة أيضا: «هل هي لغتك»؟ فجمعت اللغة بين «نمير» و «مرايا» التي كانت فعلا مرايا يطل عليها نمير على ماضيه، حاضره، مستقبله، خارجه، داخله، ذاته والآخر معا. وهي لا تقل عنه اختلافا عن المكان وتعيش تشظيا ذاتيا بين أم منفصلة عن أب تكتشف أنه ليس أباها البيولوجي. وكأن نمير بات هو الآخر مرايا لمرايا، تعيد معه مشاهدة ماضيها. ومع استمرار العلاقة بينهما، عرفت كيف تمرر أصابعها برفق على جراح نمير، وتتعرف على تضاريس روحه، كما تعرف هو على ندوب ماضيها كما هو جسدها وبات يؤمن مثلها بأنه على المرء أن يصل إلى سلام مع ماضيه، لتطلب منه تعلميها اللغة العربية، لتفهم ما يقوله نمير في نومه «لاوعيه» كما هو صحوه ووعيه، وتتعرف عليه أكثر من خلال لغته، فقد تعيش معه أحلامه وكوابيسه. ليجد نمير في المكان الثاني، المهجر، معادله الذاتي في شخصياته، كحبه التنزّه في الحي الصيني بكل ثقافته وفنونه، ليكون موازيا لحنينه لشرقيته الروحية، فكلاهما من ذات الشرق الذي برغم اختلاف الجنس واللغة، يجمعهما ما هو أعمق: «ليس من الضروري أن أعرف اللغة كي افهم المفردات. فهي ذات المفردات في كل اللغات. الحبال الممتدة بين اللذة و بين الألم والتي نمشي عليها جميعا. ندوخ ونسقط أحيانا لكننا نعاود المشي. المفردات التي تعرفها الأوتار المصلوبة في كل آلة على تقاطع الحزن والفرح. أوجاع الحنين إلى زمان ومكان آخر. الحسرة على المسافات الشاسعة بين الأشياء وبين البشر. المسافات الشاسعة بين كل شيء و... لا شيء». وهنا يمكنني القول بعد الرواية أنها أوحت لي بفكرة ما، أن اللا شيء يحتوينا نحن الشيء، يحتوينا كمفردات في لغة غير مفهومة أو فقدت ذاكرة المعنى، مهما استجمعنا أصوات الحروف، وميّزناها جهرا وهمسا، إلا أن الذات لا تعرف لغة سوى الهمس بها، فهو خروج الهواء نقيا دون صوت، كما هو الحزن الذي لا يُعرف له معنى واحد له سوى الألم. «سمعتني مرايا ذات يوم أغنيّ»غريبة من بعد عينج يا يمه،محتارة بزماني، ياهو اليرحم بحالي لو دهري رماني؟ «فسألتني» ما هذا؟ «فقلت لها» أغنية بلوز عراقية. «طلبت مني أن أترجم الكلمات فبدأت افكر بالترجمة ثم قلت لها أتعرفين. هناك أحزان لا تُترجم». والعاقبة لمن يعقل ويتدبر. * كاتب وناقد كويتي @bo_salem72
مشاركة :