قدم سنان أنطون نفسه روائياً ومترجماً بعد رحلة مستمرة مع الشعر، ولعل روايته "وحدها شجرة الرمان" بين أعماله اللافتة، لأن مؤلفها قارب على نحو ناجح ما يمكن تسميته المزاج الفطري للحزن العراقي، فهي تسجل الفواصل المتواصلة في حروب العراق عبر ذاكرة غاسل الأموات. روايته الجديدة "فهرس" بمقدورنا التوقف عند تجنيسها، لأنها سرد متخيل لسيرة عائد إلى وطنه وراحل أبدي عنه. ولكونها أقرب إلى عفوية التداعي وحكي الذات أو مناجاتها، فهي تشير إلى قدر من التهاون عند مؤلفها في حق قارئه، الذي عليه أن يصبر على طولها المتضمن نصوصاً منقولة، يبدو بعضها معلقاً بحبال واهية، وأخرى لا تمنح السرد إضافة واضحة القيمة. ولن يكون من واجبنا التطرق الى هذه الرواية لو لم تكن نموذجاً مكرراً في الروايات العراقية وسواها العربية. بيد ان من المفيد أن ندرك أهمية نص سنان انطون، أو غرض أو هدف روايته أو خطابها المضمر حيث تتشكل من خلال مجموع مركباتها وجهة النظر. ووجهة النظر لا تعني الموقف السياسي او الاجتماعي، بل هي الطريقة التي يكتب فيها الروائي نصه ويتجلى فيه موقفه الفني. ثيمة الرواية تعتني بحدود التواصل في الوجود العراقي بين فرسخين: الخارج والداخل. ولعل من الطبيعي أن يكون بين ما يعرف بأهل الداخل والخارج ما يشبه التراسل، فالعراق يبدو في لحظته الراهنة متماهي الحدود بين داخله وخارجه، ولكن ولأسباب مشابهة يتنافس الطرفان على ذاكرة العراق المعطوبة. وحيث حاول السارد تجنب فكرة الصدام، فبطله "نمير" الذي تكاد سيرته تشابه سيرة المؤلف، يجد فهرس وجوده في تراسل صوته مع صوت رجل من بغداد. يرغب الأستاذ الجامعي في العاصمة الأميركية استعادة هويته العراقية، عبر استعارة كلمات وأفكار "ودود" ذلك الكائن المتوحد الذي مر بتجارب السجن والحروب والعزلة. مكتبي او جامع كتب، عاش منزوياً في غرفة وسط شارع المتنبي، ولأنه من بغداد التي عادت إلى الوراء في سنواتها العجاف، فهو من بقايا أجيالها المدحورة. لا تمنح الرواية "ودود" فرصة الإفصاح عن شخصيته أو التعرف إليه ككائن مكتمل الملامح، وحتى تاريخه الشخصي او العائلي يكاد يغمض على القارئ، ولكننا نرى أصداء تلك الشخصية في انطباعات البطل العراقي نصف الأميركي، حيث يلوح هو وغرفته البائسة بما تحويه من كتب ومخطوطات وقصاصات، كما لو كان مشروعاً للتعرف على ما فات أهل الخارج من إحداثيات بلدهم، ثمالة حياة متعبة كانوا بمنجاة من شظاياها. من هنا جاء عنوان الرواية "فهرس" فالراوي يرى في أوراق هذا الرجل التي تركها عنده، ما يختصر وقائع الذاكرة المحلية الموشومة بعذابات لا تنتهي. وبين رغبته في أن يترجم تلك السيرة المشتتة أو تخييلها في نص روائي، وبين فك الغاز بطله الضبابي، تكمن إشارات الانتساب إلى الوطن الأول. ولن يكون بمقدورنا ترجمة فعل الانتساب هذا الى تورية كبيرة للرواية، لأن ساردها لا تراوده أسئلة خلافية عن معنى الانتماء او الانفصال، فهو هنا وهناك حيث ذاكرة الطفولة والشباب التي تؤرق حياته اليومية وتمنع عنه قدرة التواصل الحميمي مع المكان الأميركي. يبدو السؤال الأكبر الذي يشغل الراوي هو الحرب التي شنتها أميركا وطنه الثاني على وطنه الأول. وفي مشهدين متقابلين في صفحات متتالية ينقل ما يشبه المناظرة أمام طلبة الجامعة، بينه " كسارد"، وبين مواطنه الذي كان مترجماً للجيش الأميركي في العراق وحصل على منحة "فولبرايت" للدراسة. يتحدث البطل عن الحصار الاقتصادي والتداعيات الكارثية للحرب على العراق، وصاحبه الجديد يتحدث عن تضحيات الجنود الأميركان ويشكر الشعب الأميركي، ويلوم من كان في الخارج لأنه لا يعرف شعور أهل الداخل الذين رحبوا بالاحتلال على امل التخلص من صدام والحصار الاقتصادي. وسيكون الرد مشهداً آخر بعد بضعة أسطر حول الطالب الاميركي الذي يتعلم العربية ويتهيأ للذهاب الى حرب العراق، فهو لا يطلب من استاذه العراقي سوى معرفة بضعة كلمات: "اركع! قف! أرجع إلى الوراء" وإن كانت تلك الكلمات الفظة التي حفظها الجنود قد زادوا عليها بأفعالهم الأكثر قبحاً، فهي بدت في الرواية وكأنها وسيلة إيضاح لا تستحق عناء الفن. أمامنا رواية توحي بأنها سيرة متخيلة لكاتبها، وضمن مسراها تسجل موقفاً تاريخياً وتتابع أحداثه، فالبطل معارض للدكتاتورية ولكنه ليس مع الحرب، ويعيش حياة مملة، وفي ضياع بين هويتين، ولا يجد في توارد خواطر العراق في رأسه ما يؤدي به إلى تسويات تستكين لها روحه. بيد أنه كسارد يرى تلك الحياة من خارجها، أي أنه يلعب لعبة الراوي العليم الذي يريد تسجيل موقف او تعيين موقعه من أحداث انتهت ودخل زمنها في الثقب الأسود كما يقول بطله. لعلها مشكلة روائية قبل أن تكون مشكلة سياسية. فبطله يبدو وكأنه يتكىء على فراغ في أطروحة المواطنة، وهي قد لا تتخذ في النصوص السياسية، ما تتخذه من أبعاد ودلالات في تمثيلها الخيالي، فالمتخيل السردي لن يملك قدرة تفاعله دراميا حين يضع الفواصل بين تضاريس الحب والكراهية، القبول والرفض، الاستقامة والخيانة. كل تلك الإشكاليات يمكن أن تُختصر بما قيل عن ضرورة أن يخفي المؤلف صوته كي يكسب ما هو أجدر من رضا قارئ جاهل بالفن، او مزاج من يوزعون أوسمة الوطنية والخيانة على الماكثين والمغادرين بلدانهم. خرج سنان أنطون من العراق في التسعينات، وفي ذاكرته ترتسم الحروب والرعب والتهجير، ومن خلال كل ما كتب، كان يحاول الإمساك بأطياف تلك اللحظات الضائعة من عمر الزمن العراقي. وسنعثر في روايته "فهرس" بمفتتح سماه "منطق الطير" يمسرح فيه الراوي فكرة الطيران، وهو لا يعود على فريد الدين العطار قدر ما ينسب إلى بداية متخيلة لفكرة الرحيل عن الوطن. تختم الرواية بعنوان آخر "منطق الطير... الأخير" حين يقترب العائد من سماء بغداد، فيجفله الدخان الأسود المتصاعد، فيردد: "انا أخاف من أسراب الطيور الحديدية الضخمة. قد تعود ثانية كما فعلت من قبل، لتحوم فوقنا وتلاحقنا. دويها يصم الآذان. لا أعرف كيف تطير وهي عمياء؟ ولماذا تذرق النيران في كل مكان؟". يتلمس البطل قاع بحره، أو عمقه الروحي الفالت عبر اقتباسات من ولتر بنيامين والتوحيدي وأميري بركة. شغف المكتبي "ودود" بجمع الكتب، يقابله توق متصوف في الذهاب بعيداً خلف الماضي والحاضر والمستقبل، إلى حيث المكوث عند نقطة الانطلاق من وإلى العراق.
مشاركة :