بمجرد ما تصل دولة لمستوى حضاري مقنع للداخل والخارج تستطيع الاستغناء عن الإعلام الرسمي. وعندما يكثر اللغط عن إخفاقات الإعلام أو عدم قدرته على توصيل الرسالة المطلوبة، علينا أن نبحث عن الأسباب الإضافية من خارج المؤسسة الإعلامية، التي تحدد اختيار الطواقم لأداء المهمة الإعلامية. اليابان وألمانيا وفنلندا والسويد والنرويج وسنغافورا كأمثلة فقط، دول ليست لديها إمبراطوريات إعلامية حكومية. لديها وزارات متواضعة للتعامل مع وكالات الأنباء، ولكن لديها قنوات حوار وصحافة حرة ومنابر وندوات ونواد وتواصل عريض مع العالم الخارجي على مستوى الأكاديميات والكتّاب والفنون إلخ. لماذا؟ لأن هذه الدول لا تحتاج إلى الإعلام الرسمي. إنتاجها الفكري والصناعي والفني يغنيها عن الحاجة إلى الإعلام. الأهم من ذلك أنها ليست في حاجة إلى الدفاع عن النفس فليس لديها الكثير مما لا تريد للعالم أن يعرفه بأدق التفاصيل. هذا الواقع المريح يجعل إعلام هذه العينات من الدول إعلام تواصل وليس إعلام دعاية. إسرائيل وإيران والولايات المتحدة الأمريكية والدول العربية، تليها بريطانيا وفرنسا، لديها إمبراطوريات إعلامية واسعة الانتشار يتداخل فيها الحكومي بالقطاع الخاص بحيث لا يعرف المستهلك لمخرجاتها أين الحكومي من الخاص، علاوة على تقييدها بقوانين تحدد لها مجالات النشر والكشف والحوار المفتوح. التعليل في كل هذه الدول هو الأمن القومي، لكن هذا الوضع غير موجود في دول الفئة الأولى المذكورة في بداية المقال، سوى في ما له علاقة بمنتهى الحساسية فعلياً بالأمن القومي. لذلك تستخدم هذه الدول الإعلام بشقيه التواصلي والدعائي. الدول ذات المؤسسات الإعلامية الحكومية الصرفة أو تلك التي يتداخل بها الحكومي بالخاص تحتاج إلى إعلام موجه كلياً أو جزئياً، إما لأن لديها ما تحاول تجميله وأحياناً إنكاره، أو لأن ما تقدّمه للعالم كمساهمات فكرية وصناعية وفنونية لا يكفي. بالتفكيك البسيط لدينا ثلاثة مستويات من إعلام الدول: أولاً: الإعلام الذي ليس بإعلام وإنما تواصل حضاري مفتوح مع العالم يعبر عن ما يجري في دولته، يعطي ويأخذ مع العالم وليس له ميزانيات كبيرة تدفعها الدولة. ثانياً: الإعلام المطعّم الذي يتداخل فيه الحكومي بالخاص ومحكوم بسقف يرتفع وينخفض حسب الظروف السياسية الداخلية والخارجية ويحصل جزئياً على تمويل حكومي مقابل تقديم الخدمات المطلوبة منه. ثالثاً: الإعلام الحكومي الرسمي المرتبط تمويلياً وبمادته الإعلامية بما يقدّمه من أهداف مرسومة. من هنا يتضح أن نوع الإعلام كوسيلة تواصل مع الجماهير في الداخل ومع العالم الخارجي ما هو سوى انعكاس للظروف السائدة في البلاد التي تطبّقه. إيران وإسرائيل وروسيا لديها إعلام محكوم بدقة متناهية بمشروع هذه الدول ومطلوب منه أن يدلس ويكذب وأن يكون هجومياً وعدوانياً، لأن مشروع دولته في الأصل هو هكذا ولأن هذه الدول لديها ما تخفيه وتنكر وجوده. الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وأستراليا يتداخل فيها الإنجاز الحضاري والفكري مع التغطية والتدليس والكذب في شؤون لا تريد هذه الدول للعالم أن يعرف حقائقها الخفية. العالم العربي والدول الأفريقية تستخدم الإعلام المرتبط بسياسات الدولة كوسيلة للدفاع وللدعاية، بعكس الإعلام في إسرائيل وإيران وروسيا. إذا نوع الإعلام مجرد مرآة للظروف السائدة.
مشاركة :