من ذا الذي يستطيع الإمساك بشعور الحنين وتصويره بكل ألمه ولذته أكثر من المخرج السويدي إنغمار بيرغمان في فيلمه الخالد التوت البري؟ لم يفعلها سوى عدد قليل من المخرجين منهم أورسن ويلز في تحفته المواطن كين، وبيتر بوغدانوفيتش في فيلم The Last Picture Show. لكن هؤلاء - بما فيهم بيرغمان نفسه - لم يصلوا إلى ما وصل إليه المخرج الأميركي بيتر ماسترسن عندما قدم شحنة عاطفية مشبعة بالحنين إلى الطفولة ومرابع الصبا في فيلمه الجميل الرحلة إلى بونتيفول-The Trip to Bountiful المرشح لجائزتي أوسكار عام 1985. ولئن كانت لحظة الحنين العظيمة قد جاءت عابرة في رائعة السويدي بيرغمان حين قرر البروفيسور المرور على بيت الطفولة أثناء سفره إلى المدينة التي سيكرم فيها، مع خليط من المخاوف الوجودية، فإن الفيلم الأميركي الرحلة إلى بونتيفول يوظف كل عناصره ويطوعها لخدمة معنى واحد فقط هو الحنين العارم إلى الماضي. يحكي الفيلم قصة العجوز كاري واتس التي تعيش حياة بائسة مع ابنها وزوجته المتسلطة. يستحوذ عليها شوق شديد للعودة إلى مسقط رأسها، البلدة الريفية بونتيفول، التي عاشت فيها طفولتها وشبابها، واكتشفت حبها الأول، ثم غابت عنها لأكثر من عشرين عاماً، بائسة، يائسة، مكتئبة وغارقة في شقة ابنها الضيقة وسط المدينة، دون أن تتمكن من التصالح مع الصخب المحيط بها، ودون أن ترى في وجودها البعيد عن الريف سوى استنزاف للوقت القليل الذي تملكه قبل أن تموت. لعبت الممثلة جيرالدين بيج شخصية العجوز واتس، وحازت على دورها أوسكار أفضل ممثلة عام 1985 متفوقة على ميريل ستريب وآنا بيكفورد. واختيارها لهذا الدور لم يأت إلا بإصرار من مؤلف المسرحية التي استند عليها الفيلم، الكاتب هورتن فوت، الذي اشترط في البداية أن لا يؤدي هذا الدور إلا الممثلة الشهيرة ليليان غيش، بطلة فيلم مولد أمة لغريفيث، والتي لعبت أيضاً بطولة هذه المسرحية بالذات، عام 1953، بنسختيها المسرحية والتلفزيونية، لكن المؤلف وافق في النهاية على تغيير رغبته الرومانسية بشرط أن تكون الممثلة البديلة هي جيرالدين بيج، وكان قراراً موفقاً للغاية. قبل هذا الفيلم وخلال مسيرتها الطويلة، رُشحت جيرالدين لسبعة أوسكارات، أربعة منها أوسكار أفضل ممثلة مساعدة، وثلاثة لأوسكار أفضل ممثلة رئيسية، لكنها لم تفز بالجائزة الكبيرة سوى مع هذا الفيلم الذي قدمته وهي في عمر الستين، بأدائها الرائع لشخصية العجوز التي لن تتردد في دفع ما تبقى من عمرها لقاء لحظة واحدة تعيشها بالقرب من مسقط رأسها، تتجول في بيت والدها، وفي دروب القرية القديمة، تتذكر الوجوه الراحلة التي عاشت معها طفولتها، وتتذكر حبها الأول الذي تركته بسبب عناد طفولي ساذج، ندمت عليه أشد الندم. شعور غامر بالحنين يقدمه هذا الفيلم في كل تفصيل منه، بدءاً من تتر البداية الذي احتوى على صورة شاعرية كأنها الحلم لفتاة تركض وسط السهول الخضراء ترافقها أغنية تبكي كلماتها شوقاً إلى مرابع الصبا، وانتهاء بأداء الممثلة جيرالدين الذي كان حاسماً في التأكيد على معنى الحنين بتعابير وجهها المؤثرة وبنبرة صوتها التي ترتعش حزناً كلما ذكرت ماضيها الجميل الذي ذهب إلى غير رجعة.
مشاركة :