السؤال الذي يواجه دول الاعتدال، تتقدمها السعودية، في محاولة التشبث بمنطق الدولة ضمن عواصف المتغيرات السياسية في المنطقة، هو: كيف يمكن قراءة هذا النزوح الشديد للتبديل في التحولات والمواقف الإقليمية، على خلفية الخلافات حول المصالح السياسة فيما يخص الملف السوري وتوابعه. أول المؤشرات التحول على مستوى السياسة الخارجية التركية ما بعد الانقلاب، وزيارة الرئيس إردوغان إلى روسيا بوتين بهدف تحسين العلاقات، ومحاولة صياغة تحالف «جزئي» مع إيران حول الخروج من أزمة سوريا، كما هو الحال مع طهران التي سمحت للمرة الأولى بأن تقوم دول أجنبية باستخدام أراضيها، في حين لم تسمح تركيا باستعمال قاعدة إنجيرليك التي تنشط فيها قواعد حلف الناتو وترسانته من الأسلحة الحديثة. يحدث ذلك على مرأى ومسمع من الولايات المتحدة المشغولة عن الإقليم بترقب سباق الرئاسة، وفي ظل لحظة غزل متبادل على مستوى التصريحات مع إيران، وآخرها تصريح روحاني ذائع الصيت بأن استمرار العداء لأميركا يضرب مصالح إيران. واحدة من تعقيدات المرحلة التي تعيشها المنطقة هي تفتت الرؤية الكلية للسياسة الخارجية إلى ملفات صغيرة متشعبة، ساهمت في خلق هذه الفوضى على مستوى المواقف والتصريحات التي تبدو متناقضة من حين لآخر، فتركيا كما يبدو مصرة على التوغل في الأراضي السورية لوضع حدّ للأكراد من أي فعالية سياسية تصل بهم إلى تدشين منطقة حكم ذاتي، وهو ما يفسر تصريحات إردوغان بشأن إعادة بناء العلاقة مع روسيا، والبدء الفعلي في الحرب على «داعش» بعد سنوات من الضبابية في الموقف. ولا يقف الأمر عند التداخل السياسي، بل يتعداه إلى إشكالية الجغرافيا، حيث روسيا وإيران المتاخمتين على الحدود. وقد كانت ردة فعل روسيا تنم عن خبث سياسي، حين جمدت العمل على مشروع تركستريم الذي يكفل مد خطوط أنابيب في البحر الأسود، بهدف تسهيل وصول الإمدادات من الغاز الروسي إلى تركيا، كما أن تراجع الصادرات التركية إلى روسيا ساهم في تعميق تشابك العلاقة بين البلدين. تركيا اليوم ما بعد الانقلاب تشعر بعزلة كبيرة، رغم سطوة إردوغان على الداخل بفعل القوة والحرب ضد المعارضة بلا هوادة، وهو الأمر الذي لا تجد روسيا فيه أي إشكالية بتحويل المسار الديمقراطي التركي إلى شكلانية ديمقراطية تستبطن حكم الحزب الواحد، وهو ما عبر عنه بوتين بتصريحاته عن تقدم روسيا على غيرها من الدول في دعم إردوغان ضد الانقلاب على الديمقراطية، بل وأبعد من ذلك أنها ساهمت في كشفه في الدقائق الأولى، وهو ما ردت عليه تركيا بأحسن منه، بتصريحها بأن الدعم الروسي هو الأكبر من نوعه! والحال الآن، عقب التحول الجزئي التركي، أن ثمة معطيات جديدة على دول الإقليم، وفي مقدمها دول الاعتدال، حول بروباغندا روسيا ونظام الأسد حول انتصار جديد لدول محور المقاومة، ودحر «داعش»، وبقاء النظام على مستويات مختلفة، فوجود نظام الأسد بالنسبة لنظام طهران أمر وجودي لا يمكن التنازل عنه، كما هو الحال في بقاء الأزمة في لبنان واليمن، واستهداف مناطق جديدة لخلق حالة «اللادولة» التي يبدو أنه النموذج business model الجديد لتصدير الثورة عبر بوابة الطائفية من جهة، وعبر استهداف الدول الهشة واختراقها عبر تكون ميليشيات تختطف المشهد السياسي، والأمر ليس كذلك بالنسبة لروسيا التي تبحث عن مصالحها في ظل وجود الأسد أو غيابه، لكن ثمن الغياب لا يمكن أن يتحقق دون عودة نشطة للولايات المتحدة في المنطقة. وتأخر نهاية «داعش» التي لا تبدو وشيكة سيساهم في إعادة التفكير في حجم فاتورة بقاء نظام الأسد، لا سيما بعد أحداث حلب التي وصفتها الـ«نيوورك تايمز» قبل يومين بأنها «يوم القيامة للحلبيين»، في إشارة إلى فظاعة المجازر، وانتهاك كرامة الإنسان التي يكرسها النظام بغطاء روسي. هدف روسيا التوسعي في المنطقة لا تخطئه العين، كما هو الحال الانكماش الأميركي. وما نشر قوات روسية في طول سوريا وعرضها إلا جزء من خطة لاستعادة مجدها، لكن ليس عبر بوابة الجغرافيا، وإنما من خلال الاستثمار في الأزمات السياسية والتحالفات المصلحية، وهو ما يتوقف على تقدم كبير لنظام الأسد على الأرض. ورغم تصاعد وتيرة وحشية عمليات النظام تجاه المدنيين، فإن تحقيق مكاسب كبيرة على الأرض لا يبدو وشيكًا. دول الاعتدال اليوم مطالبة بالانخراط أكثر من ذي قبل في المطالبة بإنصاف وعدالة الشعب السوري، خارج أقواس المصالح السياسية الإقليمية، فالأزمة الأمنية التي يخلفها تجدد أجيال من الدواعش الذين يزداد حجم التجنيد والدعم لهم، كلما أخفق العالم في إنهاء الوحشية تجاه الشعب السوري الذين قد يتحالف ويتعاطف، بل ويتبنى خيارات عنفية بسبب تأزم الأوضاع، قالها سيوران ذات يوم: «من الصعب جدًا انتقاد من لم يتبق لهم سوى الله». ومن دون وقفة حازمة تجاه استمرار نزف الأزمة السورية، لا يمكن التحكم في خيارات الشعب المغلوب على أمره.
مشاركة :