يُصنف مرض الاكتئاب في كثير من الأحيان على أنه مرض نفسي وليس مرضاً جسدياً، كما لو أن الصحة النفسية مختلفة بطريقة ما عن الصحة الجسدية، لكن العقل ليس صندوقاً أسوداً سحرياً داخل رأسك، بل إنه مجرد عضو كباقي أعضاء الجسد، مثل القلب والرئة، مكوّن من خلايا ويمدّه الدم بالغذاء. هذه الخلايا الدماغية تنمو وتتطور لتتصل بخلايا دماغية أخرى لكي يتواصل الشخص مع من حوله، لذا فإنها تتحكم في سلوكياتنا وعواطفنا وأفعالنا، وأحياناً تسير العملية برمتها بشكل خاطئ؛ وهو ما يؤدي إلى مرض ما مثل الاكتئاب. تقول ، أستاذ الجهاز العصبي بجامعة باث، إنه ينبغي التعامل مع الاكتئاب مثلما نفعل مع أمراض القلب والسرطان، إذ تسهم التغيرات الطفيفة بعدد من الجينات في الإصابة بالمرض، وذلك بدلاً من أن نبحث عن الجين الوحيد الذي يتسبب فيه. تتكرر الإصابة بمرض الاكتئاب داخل العائلات، مما يعني أن الاكتئاب قد يكون حالة جينية وراثية، بيد أن العائلات لا تتشارك الجينات فحسب، بل أفرادها أيضاً يواجهون نفس التجارب. فكيف لنا أن نفصل بين التأثير الجيني وبين تأثير العوامل البيئية على الإصابة بالاكتئاب؟ يعتبر التوائم حالات مفيدة لدراسة تأثير الجينات والبيئة على العديد من الأمراض، فربما يكون التوأمان متماثلين (عندما تنقسم بويضة لتُكوّن جنينين) يتشاركان نفس الخصائص الجينية، أو يكونان مختلفين (عندما تُكوّن بويضتان منفصلتان جنينين) ليتشاركا نصف الجينات. ومن خلال دراسة التوائم المتماثلين الذين نشأوا في نفس البيئة الأسرية، يمكننا أن نفحص ما إذا كانت الاختلافات في معدلات الاكتئاب طرأت نتيجة العوامل البيئية غير المشتركة. أشارت دراسة تحليلية، أجريت العام 2005 على عدد كبير من الدراسات المتعلقة بالتوائم، إلى أن 40% من عوامل الإصابة بمرض الاكتئاب تعد جينية، وأن 60% من تلك العوامل مرتبطة بالعوامل البيئية غير المشتركة. لذا، فإن قولنا إن أمراضاً مثل الاكتئاب هي إما جينية أو بيئية يعد تبسيطاً مخلاً للسبب وراءها، لأن كلا العاملين يلعبان دوراً في التسبب في المرض. الاكتئاب ليس نوعاً واحداً وبفرض أن مرض الاكتئاب مثل مرض السرطان، ليس نوعاً واحداً من مرض واحد، فربما لا نندهش أنه لم يُكتشف جين واحد يتسبب في الاكتئاب. كما يزيد تنوع التجارب أيضاً من صعوبة التوصل إلى مجموعات المرضى المناسبين لإجراء الدراسة عليهم، إذ ربما يواجه المصابون بالاكتئاب نوبة عرضية واحدة أو ربما يواجهون نوبات متكررة. فضلاً عن أن الاكتئاب قد يتطور معهم في فترة الطفولة أو مرحلة المراهقة أو في أي مرحلة لاحقة بحياتهم، كما تختلف الأعراض من شخصٍ لآخر، فربما تكون اضطراباً في النوم، أوتغيراً في وزن الجسم، أو فقداناً للاهتمام بآداء الأنشطة اليومية، أو الشعور بالذنب وانعدام القيمة، أو التفكير في الانتحار. يعتبر اتحاد خبراء علم النفس الوراثي نتاجاً لتعاون مئات من العلماء الدوليين القادمين من 38 دولة حول العالم، يتشاركون فيما بينهم بيانات لحوالي مليون مريض بالاكتئاب من حول العالم. وخلُصت تلك البيانات في العام 2015 إلى أن التأثيرات الجينية التي توصلت إليها الأدبيات العلمية حتى الآن لا تحمل موثوقية كبرى أو أساساً متيناً، إلا أن تلك الحقيقة لا تعني أن الجينات لا تشارك في التأثير على المرض، بل إنها تعني فقط أننا لم نجر الدراسات الصحيحة بعد؛ لأن الاكتئاب حالة متغيرة. فضلاً عن أن وضع مجموعة من الأشخاص الذين يحملون تشخيصات مختلفة للاكتئاب يُصعب من تحديد مدى الإسهام الجيني في المرض، وتجدر الإشارة إلى أن التقدم العلمي المتعلق بفهم مرض السرطان خلال العشرين عاماً الماضية كانت بدايته في الحقيقة تكمن في القدرة على الفصل بين سرطان الثدي وسرطان الرئة وسرطان البروستاتا. بيد أن تلك الحقيقة تمثل تحدياً آخر أمام أبحاث الاكتئاب إذ تعتمد الأعراض والتشخيصات على علامات محددة وليس على اختبار للدم. ثمة ائتلاف آخر من العلماء يسمى "كونفيرج" CONVERGE استطاع تحقيق بعض النجاحات في تحديد الجينات المرتبطة بالاكتئاب من خلال مشروع بحثي مستمر. ونشر الائتلاف النتائج التي توصلوا إليها من خلال متابعة مجموعة من النساء الصينيات اللاتي يعانين من الاضطراب الاكتئابي الحاد المتكرر. وُضع تسلسل للحمض النووي الخاص بعشرة آلاف مريضة، ليكشف ذلك التسلسل عن وجود تغير في جينين كانا مرتبطين بالاضطراب الاكتئابي، وهما جين "إل إتش بي بي" LHPP وجين "إس آي آر تي" 1 SIRT1، وكلا الجينين مرتبطان بعملية الأيض (وهي الطريقة التي تولّد الخلايا بها الطاقة والإشارات). كما أن إحدى الدراسات الحديثة بالولايات المتحدة، والتي أجريت على أكثر من 300 ألف شخص ينحدر جميعهم من أصول أوروبية، تشير إلى أن ثمة جينات مختلفة مرتبطة بالاكتئاب. هل للاكتئاب أسباب أخرى ؟ لا يفضل بعض الأشخاص فكرة وجود "جينات مرتبطة بالاكتئاب"؛ لأنهم يعتقدون أن الإصابة بالمرض ستكون شيئاً لا مفر منه. وهذا الأمر صحيح، فلا ينبغي أن ننسى العامل الآخر الذي يسهم في جعل الشخص عُرضة الإصابة بالاكتئاب، ألا وهو التأثيرات البيئية التي يتعرض لها الشخص، مثل الضغط والتوتر. هل ثمة جين للاكتئاب؟ الإجابة هي أنه ليس هناك جين للاكتئاب، فنحن لا نمتلك جينات للأمراض. إذن هل يعني امتلاك أحدنا حمضاً نووياً يحتوي على تغيّر في جين LHPP أو جين SIRT1 أنه سيصاب بالاكتئاب؟ الإجابة هنا أيضاً بلا؛ إذ قد يعني أن هذا الشخص عرضة للإصابة بالاكتئاب أكبر من غيره ، لكن ذلك يعتمد على البيئة التي يعيش فيها الشخص. وبنفس الطريقة التي ننظر بها إلى أمراض القلب والسرطان والسمنة، عندما تمتلك أجسادنا جينات عديدة تجعلها معرّضة للإصابة بتلك الأمراض، فمن المحتمل أن الاكتئاب يسير بنفس الطريقة. ربما تكون هناك اختلافات بسيطة في عدد من الجينات، يسهم كل منها إسهاماً طفيفاً في اختلال وظائف الخلايا الدماغية للشخص؛ مما قد يؤدي إلى الإصابة بالاكتئاب. - هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Independent البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط .
مشاركة :