ثمة من يزعمون أن ظاهرة (الحب)، تلك العاطفة الرومانسية الجميلة التي يحتفي بها العالم في 14 شباط (فبراير) من كل عام، قد نشأت بفضل الذوق الغربي الحديث، أي الممتد منذ عصر النهضة قبل ستة قرون، حينما توافر وقت الفراغ مع مستوى أرقى من الآداب والفنون جعلتها قادرة على التعبير عن عاطفة الحب. غير أن ذلك وهم ثقافي يرجع إلى نزعة التمركز الغربي حول الذات، وينبع من خلط واضح بين حقيقة وجود الظاهرة وبين التعبير عنها. فالتعبير الأدبي عن الحب ليس إلا غلافاً خارجياً له قد يأتي لاحقاً، أما الحب نفسه فظاهرة قديمة جداً قدم الوجود الإنساني، ومن المحتمل أنه قد نشأ للمرة الأولى في السهول الإفريقية، حيث رصد علماء أنثروبولوجيون لدى قبيلة «ووداب» الزنجية نوعين من الزواج: الأول هو الزواج المعد له، أو «الكوبغال»، والثاني هو الزواج العاطفي، أو «التيغال»، ما يعني أن الحب ظاهرة عريقة جداً في حد ذاته. كما أن التعبير عنها يشغل حيزاً معقولاً من الآداب اليونانية والفارسية والعربية القديمة، السابقة قطعاً لعصر النهضة الأوروبي، ويكفينا مثلاً إلياذة وأوديسة هوميروس في اليونانية، وقصائد شعراء الحب العذري ومن بعدهم ابن الرومي في العربية. وفي التراث الإسلامي نفسه ثمة توقير للحب نطالعه لدى الأدباء كالجاحظ، والمتصوفة كالتوحيدي، بل لدى الفقهاء كإبن حزم، المتكلم وصاحب المنهج الظاهري وذلك في كتابه الأشهر «طوق الحمامة»، إذ يصف الحب قائلاً: «دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل»، مستشهداً بالآية الكريمة: «هو الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها»، قبل أن يقوم بتفحص ظاهرة الحب موزعاً على أنماط مختلفة كمحبة القرابة ومحبة الألفة والتصاحب «الصداقة»، ومحبة المعرفة والعلم، ومحبة اللذة الجسدية، ومحبة البر عندما يجمع بين الناس، وقريب منها محبة المتحابين في الله عز وجل، وصولاً إلى محبة العشق التي لا علة لها إلا اتصال النفوس، أي ما ندعوه اليوم بكيمياء الحب أو «العشق». ويحاول ابن حزم تفسير هذه الكيمياء تفسيراً عقلياً استناداً إلى ما نسميه بالمبادئ الكلية للعقل البشري قائلاً إن «النفس بطبيعتها جميلة تولع بالجمال، حسنة تكلف بكل شيء حسن، وهي حين تميز في المواضع الجميلة شيئاً من أشكالها، فإنها سرعان ما تتعلق بها وتنجذب إليها». ويرفض ابن حزم التعددية في الحب لأن القلب لا يسع إلا محبوباً واحداً، مثلما يؤمن بإله واحد، فهو يدعو إلى الفردية في الحب كما يعتقد في وحدانية الألوهية. يدعي بعض المتشائمين من الفلاسفة كشوبنهاور أو الماديين كفرويد أن الحب ليس إلا حيلة اصطنعتها الطبيعة لنفسها كي تحقق من خلالها أغراضها وعلى رأسها التناسل البشري تحقيقاً لإرادة البقاء، غير أن الحب لا يمكنه أن يكون مجرد متعة جنسية أو رغبة في التكاثر، فالحب الحقيقي الناضج ثمرة توافق وتكامل وانسجام بين الحاجات البيولوجية والعواطف الوجدانية، أي بين متطلبات الجسد القاهرة، الكامنة في غرائزنا، وإلهامات الروح الدافعة إلى تسامينا. وربما كان الحب الرومانسي أو ما يدعوه الشعراء «عشقاً» هو ثاني أكبر وأعمق المحاولات الإنسانية نجاحاً، بعد رحلة الإيمان بالله، للخروج من كهف الوحدة وأسر الذات الفردية والاندماج في الوجود الإنساني الرحيب. فالحب طريق للخروج من وحشة العزلة وكآبة الاغتراب إلى فضاء الحميمية والتعاطف مع البشر من كل جنس ووطن ودين، ولذا كان الحب جوهر الأديان حتى غير السماوي منها، وجماع الفلسفات عدا العنصرية فيها. فالقيمة الأخلاقية الكبرى للحب أنه يدفعنا للتعامل مع الآخرين كذوات إنسانية حية وليس مجرد موضوعات أو موجودات أو أشياء كما يفعل غير المحبين، بل إنه يدفعنا إلى التعامل مع الأشياء الجامدة على أنها حية ناطقة، فالمحبون كثيراً ما يشعرون وكأن الأشياء تناجيهم، وبرغبة في التواصل مع كل الأشياء التي تنتمي إلى عالم المحبوب والتي ربما لمسها بيده أو رمقها بعينيه، وكأن التواصل معها تواصل معه، ولذا كان الحب دوماً فعلاً أخلاقياً وسلوكاً نبيلاً يقدره البشر حتى أولئك الذين لم يمروا بتجربة الحب، لأن ثمة شعوراً لديهم بأن هناك، في صدور المحبين، يقبع شيء جميل وخيِّر. ويدرك الكثيرون عمق العلاقة بين الحب والفن خصوصاً الموسيقى إلى درجة دفعت الموسيقار الفرنسي برليوز إلى التساؤل: «أي هاتين القوتين: الحب أم الموسيقى أقدر على التسامي بالبشر إلى أعلى عليين؟ ويجيب عن تساؤله متحيزاً الى موسيقاه «إن الحب لا يعطينا أية فكرة عن الموسيقى، في حين أن الموسيقى تستطيع أن تعطينا فكرة عن الحب». ولعل من الصحيح أن ملكة الإبداع الفني إنما تكسب الإنسان ملكة التعرف إلى نفسه، والآخرين، بتذوق المعاني الأعمق في سيرنا البشري الطويل، حيث الفنون على تعدد أشكالها، وتباين مستوى الإبداع فيها، تعكس قدرة مبدعها على رصد وتكثيف المعاني الإنسانية العميقة التي توصلنا إليها بتأثير تجاربنا المشتركة كبشر، حيث تجمعنا مثل وغايات، وتلهمنا فضائل، يصوغها الفن في لوحات تشكيلية، وكتل نحتية، ومقطوعات موسيقية، لا تخلب أبصارنا أو تشجي آذاننا فقط، بل تضعنا دوماً أمام حقيقتنا الإنسانية ولو في سياق جمالي غير وعظي، يطلق أعمق تخيلاتنا. لكن الصحيح كذلك، والذي يتجاهله برليوز، أن الحب هو تلك الطاقة الكبرى القادرة على شحن الروح الإنساني بملكتي الإبداع والتذوق الفني، وعلى تحرير الخيال الإنساني من ضغط المادي واليومي والعادي ودفعه إلى التجاوز والتسامي حتى يحق لنا القول: إذا كانت الموسيقى قادرة على أن تعطينا فكرة عن الحب، فإن الحب، بعد الإيمان، هو أكثر ما يعطينا فكرة عن أنفسنا، بل يضفي المعنى على وجودنا الإنساني كله، فالحب حقاً موسيقى الوجود، فيما الله خالقه. يشعر العاشقون وكأنهم يسيرون فوق السحاب، وهو ما يفسره العلماء بوجود كيمياء خاصة بالحب تبدأ تفاعلها بالتقاء العيون وتلامس الأيدي وتسري إلى الدماغ على نحو يبعث في الإنسان نشوى الحب. ويربط عاشقون آخرون بين الحب والأمل، قائلين مع القديس بولس «المحبة تؤمن بكل شيء وترجو كل شيء»، ومع الكاتب الفرنسي ستندال «الحب نصف الحياة، بل النصف الأجمل فيها، ولكنه النصف الخفي عن كل رجل لم يستطع أن يحب بحرارة وقوة». غير أن الحب لا يعني أن يرفل المحب في سعادة أبدية أو أمل دائم بل ربما صار الحب نفسه باباً للألم واليأس أحياناً، خصوصاً عندما ينقضي باختفاء المحبوب أو يذبل بصده، فعندها يشعر المحب وكأنه لم يعد شيئاً في الكون، بعد أن كان كل شيء فيه. ولكنّ هذا الألم وذاك اليأس المتولدين عن فعل الحب يبقيان خيراً من حال الخواء الروحي الذي قد ينتاب الإنسان فيما لو افتقد الحب، فالحب، كالإيمان ضرورة بشرية لملامسة قلب الوجود الدافق. وإذا كان وقوع المؤمن في المعصية لا ينفي أهمية الإيمان، فإن شعور المحب بالألم لا يقلل من دور الحب. في الإيمان تنهض التوبة بتجديد العهد مع الله، وفي الحب يقوم النسيان بمد الجسور إلى الكون. وهنا يقول الفيلسوف الوجودي المؤمن كيركيجورد «اليأس مرض من تلك الأمراض التي من سوء حظ الفرد ألا يعرفها، لأن يقظة الروح لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال اليأس». وهنا يقصد كيركيجورد اليأس كعرض جانبي لأمل شاهق ضائع، لا اليأس كغاية مرجوة أو كهدف إنساني. أما الراهبة البرتغالية ماريانا آلكوفاردو فتكتب إلى عشيقها تقول «إنني أشكرك من أعماق قلبي على اليأس الذي دفعتني إليه. إنني أودعك وأطلب إليك أن تحبني وأن تزيد آلامي يوماً بعد يوم». والمعنى الكامن هنا أن الروح اليقظى، ولو كانت متألمة، أفضل كثيراً للإنسان من روح يملأها الخواء ويحيطها العبث واللامعنى. قد يتبدى المحب رقيقاً هادئاً، ولكن في داخله صلابة كبيرة تنجم عن عزم لا يلين، لأنه دوماً يشعر بقوته مضاعفة بفعل التمدد في شخص المحبوب، وبفعل دوافع كثيرة للحياة من أجله. ولذا يشيع القول بأن الحب يصنع المعجزات، وهو قول صحيح لو أحسنا فهمه وتأويله، فالمعجزة تكمن فقط في إرادة الإنسان لو بلغت ذروتها الكاملة، وفي بصيرته لو شفت عن غايتها النهائية، والحب هنا هو عامل تفجير، به يكتشف الإنسان حدود قدرته، وتنجلي له بصيرته. وفي المقابل يدفع الحب المحب إلى الرضا أكثر بحظه وقدره لأن الإنسان السعيد داخلياً والمشبع وجدانياً تقل حاجته إلى عوامل السعادة الخارجية كالمال والجاه وغيرهما. فالمحب يبدو غنياً جداً وقوياً جداً ولو لم يكن حائزاً ثروة أو سلطة، لأن مركز إلهامه ينبع من داخله وقوة حضوره تتركز في ذاته نفسها، وليس ما يحيط بها، ولذا يبقى تأثير هذا المحيط فيه ضئيلاً، إذ لا يمكن الآخرين أن ينتزعوا منه شيئاً كبيراً لديه عزيزاً عليه، فيما هم لا يرونه ولا يمكن أن يلمسوه. * كاتب مصري ظاهرة الحب
مشاركة :