يتميز الإنسان عن باقي المخلوقات بالقدرة على تصور الأشياء غير الحاضرة أمامه، وبناء على المعلومات والوصف يستطيع أن يشكِّل في ذهنه قدراً معتبراً من موقف ما ويستخلص نتائج تساعده في رؤية هذا الموقف الذي لم يشهده. وفي القرآن الكريم تشبيهات يغلب عليها التصوير الحسي الذي يجعل المشهد المحسوس حياً متحركاً وبارزاً مشخصاً. هذا ما سنتحدث عنه في حلقات من خلال دراسات وتفاسير وآراء لعدد من علماء علوم القرآن. فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى.. (طه: 60) كانت غواية فرعون للسحرة مدعاة لجلبهم؛ فبدأ بجمع السحرة من كل مكان في البلاد. في هذا المشهد نجد سرعة تلاحق الأفعال في السرد وتعدد الفصول والمشاهد والأحداث في المسرود والمحكي، ويبدو من لفظة (فجمع) أنهم كانوا سحرة كثيري العدد، بل تعتقد حين تقرأ بعض التفاسير، أن السحر كان مهنة يعمل بها معظم الناس، وقد اختلفوا في عدد السحرة فذكروا أرقاماً بدءاً من أربعين حتى سبعين ألف ساحر.. إذن مشهد اليوم يشوبه الترقب والخوف والحذر لما سيكون، يوم لقاء موسى بسحرة فرعون. هذه الأحداث المليئة بالحركة تعطينا تخيلاً لما كان عليه الموقف، فقد جاء في (سلسة محاسن التأويل) لصالح بن عواد المغامسي: ولا ريب أن ما بين هذا اليوم الذي تواعدا فيه وما بين يوم الموعد نفسه هناك فترة زمنية، وهذه الفترة الزمنية تسمح للناس بأن يخوضوا في الموضوع، وللخبر أن ينتشر ويصبح لا هم للناس إلا هذا الخبر، فيصبح الجميع مهيأ لأن يصل في الموعد ويريد أن يعرف أين الحق؟ لكن الناس حتى في معرفتهم للحق يتفاوتون، ويصور لنا القرآن كيف جمع فرعون كيده في آية أخرى فأرسل فرعون في المدائن حاشرين(الشعراء 53)، أي: وبعث بعد ذلك يأتي بالسحرة من كل مكان، ففي هذه الفترة الزمنية علا فيها قدر السحرة؛ لأنهم غلب على ظنهم أن أمر فرعون أصبح بيدهم، فاشترطوا على فرعون شروطاً تجعلهم أرفع منزلة بعد الغلبة. أسلوب قديم يقول ابن عاشور في (التحرير والتنوير): تفريع التولي وجمع الكيد على تعيين موسى للموعد، إشارة إلى أن فرعون بادر بالاستعداد لهذا الموعد، ولم يضع الوقت للتهيئة له، والتولي: الانصراف؛ أي انصرف عن ذلك المجلس إلى حيث يرسل الرسل إلى المدائن لجمع من عرفوا بعلم السحر، وهذا كقوله تعالى في سورة النازعات: ثم أدبر يسعى فحشر فنادى.. (النازعات: ٢٢-٢٣)، ومعنى جمع الكيد: تدبير أسلوب مناظرة موسى، وإعداد الحيل لإظهار غلبة السحرة عليه، وإقناع الحاضرين بأن موسى ليس على شيء.. وهذا أسلوب قديم في المناظرات؛ أن يسعى المناظر جهده للتشهير ببطلان حجة خصمه بكل وسائل التلبيس والتشنيع والتشهير. عجائب وتأملات ستحدث في هذا المشهد الموعود، تقول آلاء ياقوت في كتاب في الأسلوب القرآني: فعل (تولى) مثلاً - في الآية التي نتدبرها-لا مرادف له يفي بكل الدلالات الإيحائية.. فهو دال على الحركة في اتجاه معين مع الدلالة على موقف فكري ونفسي، فانصرف -مثلاً- إن حملت المعنى الأول لم تحمل المعنى الثاني، والظاهر أن الآية إخبار عن فرعون، وترتيب للأفعال الصادرة عنه؛ التولي والجمع والمجيء، لكن التأمل الدقيق للفعلين: (تولى، وأتى) يكشف أن الآية حملت إخباراً عن موسى -عليه السلام- أيضاً. نقرأ في المشهد الواحد مشهدين في الحقيقة، وهذا من إيجاز القرآن المعجز، (تولى): فعل يدل على حركة متجهة في الفضاء، ويدل أيضاً على وجود شخص (أو شيء) في الخلف، هو المرجع الذي يحدد فعل (تولى)، أتى: فعل يدل على حركة متجهة في الفضاء، لكنها حركة مقابلة للتولي، فالنقطة المرجعية هنا توجد أمام وليس خلف، والآية تشعرنا أن موسى عليه السلام لم يغادر مكانه، وهذا الشعور عندي ذاتي قريب من الحدس. ثبات الحق وفي هذه الآية سرد سريع لما قام به فرعون، (تولى وجمع ثم أتى)، فكأنه لم يتخلل بين الفعلين زمن طويل، فلا يكاد يتوهم الذهن أن موسى، عليه السلام، قد فعل شيئاً ما بين انصراف فرعون ورجوعه، وأن المتكلم قبل هذه الآية هو موسى، عليه السلام، الذي حدد الموعد: قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى، والمتكلم بعد الآية هو موسى، عليه السلام، أيضاً: قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى (طه: 61)، فكأن موسى عليه السلام يستأنف كلاماً قريباً.. أو كأن الآية (فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى) اعتراض في حوار.. فلا نجد إشارة إلى انصراف لموسى ولا لمجيء له.. والمعنى في ذلك - والله أعلم - أن صاحب الحق ثابت في مكانه لا يحتاج إلى مناورة ولا إلى ذهاب ومجيء ولا إلى استعانة بالغير. فكأن لسان حال موسى - عليه السلام - الواثق في وعد الله يقول: أنا هنا لا أحيد فاذهب حيث شئت واستعن بمن شئت وجئني متى شئت، كذلك نرى في هذه المشاهد أن الأفعال متلاحقة تشعر القارئ بالسرعة، لكنها مع ذلك بينت البرنامج الفرعوني كله.. فانظر مثلاً إلى قوة الجملة الوسطى: (جمع كيده).. فعل (جمع) يختزل أوقاتاً وأحداثاً: إعلانات، وسفراء، ومبعوثين، وحركة في طول البلاد وعرضها، وعروضاً وإغراءات ووعوداً، باختصار حالة استنفار قصوى. إن كل ما قاله فرعون وما أشار به الملأ من قومه، وما دار بينه وبين السحرة من تشجيع وتحميس ووعد بالمكافأة، وما فكر فيه وما دبر هو ومستشاروه.. تعبر عنه جملة: فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى، وتصور تلك الآية الواحدة القصيرة ثلاث حركات متواليات: ذهاب فرعون، وجمع كيده، والإتيان به. والمفعول به: (كيد) يختزل من جهته الأفعال السحرية والرغبة في إزالة الحق بالباطل، فضلاً عن الإشارة إلى غموض عالم السحر والسحرة- فلا يقال (الكيد) إلا لما فيه خفاء، فانظر إلى هذه الكلمة (كيد) كيف دلت على نوايا أصحابها، ودلت على خططهم وتراتيبهم، فنحن نفهم أنه بين جمع الكيد والذهاب إلى الموعد انصرمت مدة نبهت إليها (ثم): إنها مدة وضع المخططات والاتفاق على الوسائل وترتيب الأولويات واختبار الحيل.. ونستفيد أيضاً قوة الحق الثابت عند موسى، عليه السلام.. ففرعون وسحرته لم يرتجلوا شيئاً بل دبروا أمرهم وأخذوا الوقت الكافي لبناء كيدهم ثم أتوا صفاً فانهزموا.
مشاركة :