موسى وسحرة فرعون

  • 8/18/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

القرآن كتاب الله القويم، وحبله المتين،‮ والذي أعجز العرب وهم سادة البلاغة والفصاحة، يتضمن آيات قد تحتار فيها العقول، لما فيها من‮ ‬غموض. ومن هذه الآيات قول الله تبارك وتعالى في‮ ‬سورة الشعراء‮ «‬فَجُمِعَ‮ ‬السَّحَرَةُ‮ ‬لِمِيقَاتِ‮ ‬يَوْمٍ‮ ‬مَعْلُومٍ‮» (‬83‮) ‬فما عدد هؤلاء السحرة؟ ومن قادتهم؟ وما هي‮ ‬مطالبهم وماذا كان مصيرهم؟يقول جلال الدين السيوطي‮ ‬في‮ «‬مفحمات الأقران في‮ ‬مبهمات القرآن‮»: «‬فجُمِعَ‮ ‬السَّحَرَةُ‮» ‬أخرج ابن أبي‮ ‬حاتم،‮ ‬عن ابن عباس قال‮: ‬كان السحرة سبعين رجلاً. وعن كعب‮: ‬أنهم كانوا اثني‮ ‬عشر ألفاً. وعن أبي‮ ‬ثمامة قال‮: ‬كانوا سبعة عشر ألفاً. وعن محمد بن كعب القرظي‮: ‬كانوا ثمانين ألفاً. وعن ابن جرير‮: ‬كان اجتماعهم بالإسكندرية. وسمى ابن إسحاق رؤساءهم‮: ‬سابورا،‮ ‬ونادور،‮ ‬وشمعون‮.‬وجاء في‮ ‬«مختصر ابن كثير» لمحمد على الصابوني‮: ‬«لما جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر،‮ ‬وكانوا إذ ذاك أسحر الناس وأصنعهم،‮ ‬وكان السحرة جمعاً كثيراً وجماً‮ ‬غفيراً،‮ ‬قيل‮: ‬كانوا اثني‮ ‬عشر ألفاً،‮ ‬وقيل‮: ‬خمسة عشر ألفاً،‮ ‬وقيل‮: ‬غير ذلك،‮ ‬والله أعلم بعدتهم‮. ‬واجتهد الناس في‮ ‬الاجتماع ذلك اليوم،‮ ‬وقال قائلهم‮: ‬لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبون،‮ ‬ولم‮ ‬يقولوا نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى،‮ ‬بل الرعية على دين ملكهم‮ «‬فلما جاء السحرة‮» ‬أي‮ ‬إلى مجلس فرعون،‮ ‬وقد جمع خدمه وحشمه،‮ ‬ووزراءه ورؤساء دولته،‮ ‬وجنود مملكته،‮ ‬فقام السحرة بين‮ ‬يدي‮ ‬فرعون‮ ‬يطلبون منه الإحسان إليهم إن‮ ‬غلبوا فقالوا‮: «‬أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين‮ * ‬قال نعم وإنكم إذاً لمن المقربين‮» ‬أي‮ ‬وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي‮ ‬وجلسائي،‮ ‬فعادوا إلى مقام المناظرة‮.‬يوم مشهودويوضح الشعراوي في‮ ‬تفسيره المعروف ب«الخواطر‮» ‬فجمع السحرة لميقات‮ ‬يوم معلوم، وكان‮ ‬يوماً مشهوداً عندهم،‮ ‬ترتدي‮ ‬فيه ‬الفتيات أبهى حللها،‮ ‬وكان‮ ‬يوم عيد‮ ‬يختارون فيه عروس النيل التي‮ ‬سيلقونها فيه،‮ ‬فحدد اليوم،‮ ‬ثم لم‮ ‬يترك اليوم على إطلاقه،‮ ‬إنما حدد من اليوم وقت الضحى‮ «‬وأن‮ ‬يحشر الناس ضحى‮»: ‬وفي‮ ‬لقطة أخرى حدد المكان،‮ ‬فقال‮: «‬مكاناً سوى‮» (‬طه‮) ‬58‮: ‬يعني‮: ‬فيه سوائية،‮ ‬إما باستواء المكان حتى‮ ‬يتمكن الجميع من رؤية هذه المباراة السحرية،‮ ‬بحيث تكون في‮ ‬ساحة مستوية الأرض،‮ ‬أو‮ ‬يكون مكاناً سواسية متوسطاً بين المدائن التي‮ ‬سيجمع منها السحرة،‮ ‬بحيث لا‮ ‬يكون متطرفاً،‮ ‬يشق على بعضهم حضوره‮. ‬وقبل جمع السحرة شاور فرعون أتباعه على إتمام المناظرة مع موسى أم لا؟ وفي‮ ‬هذا‮ ‬يقول الشعراوي‮: «‬ونرى في‮ ‬هذه المشورة حرص الملأ على إتمام هذا اللقاء،‮ ‬وأن‮ ‬يكون على رؤوس الأشهاد،‮ ‬لأنهم‮ ‬يعلمون أنها ستكون لصالح موسى،‮ ‬وسوف‮ ‬يفضح هذا اللقاء كذب فرعون في‮ ‬ادعائه الألوهية وأخذوا‮ ‬يدعون الناس،‮ ‬وكأنهم في‮ ‬حملة دعاية وتأييد،‮ ‬إما لموسى من أنصاره الكارهين لفرعون في‮ ‬الخفاء،‮ ‬وإما لفرعون،‮ ‬فكان هؤلاء وهؤلاء حريصين على حضور هذه المباراة. بين سحرة من‮ ‬يدعي‮ ‬الألوهية وموسى الذي‮ ‬جاء برسالة جديدة‮ ‬يقول‮: ‬إن له إلهاً ‬غير هذا الإله؟ إنه حدث هزَّ الدنيا كلها،‮ ‬وجذب الجميع لمشاهدته‮». ‬وجاء في‮ «‬التفسير القرآني‮ ‬للقرآن‮» ‬لعبدالكريم‮ ‬يونس الخطيب‮: ‬ارتأى القوم في‮ ‬موسى أنه ساحر فليلقوه بسلاح مثل سلاحه. وليجمعوا له السحرة من كل مكان‮! ‬فها هم أولاء السحرة قد جيء بهم من كل مكان،‮ ‬وقد أنذروا بالسّحر الذي‮ ‬سيلقونه وبالساحر الذي‮ ‬سيرميهم بسحره،‮ ‬وباليوم المعلوم الذي‮ ‬تلتحم فيه المعركة‮: «‬فَجُمِعَ‮ ‬السَّحَرَةُ‮ ‬لِمِيقاتِ‮ ‬يَوْمٍ‮ ‬مَعْلُومٍ‮» ‬ثم ها هم أولاء دعاة فرعون،‮ ‬ينطلقون بين الناس،‮ ‬يغرونهم بالاحتشاد لهذا اليوم،‮ ‬وبشهود تلك المعركة. بين السحرة،‮ ‬وبين الساحر‮..‬ وهذا الحشد للناس‮. ‬غايته،‮ شدّ‮ ‬ظهر هؤلاء السّحرة،‮ ‬وإلقاء الرعب في‮ ‬قلب موسى بهذه الحشود التي‮ ‬تتربص به،‮ ‬وتنتظر الهزيمة له،‮ ‬لتسخر منه أو تفتك به‮.‬هزيمة فرعونثم ها هم أولاء السحرة،‮ ‬يلتقون بفرعون قبل المعركة،‮ ‬ليتلقّوا كلمته،‮ ‬وليعرضوا بين‮ ‬يديه ما معهم من أسلحة قد أعدوها للقاء هذا الساحر‮.. ‬ثم‮ ‬يعرضون على فرعون مطلباً خاصّاً بهم،‮ ‬وهو الجزاء الذي‮ ‬سيجزيهم به فرعون إذا هم حققوا له النصر المبين. ولا‮ ‬يتردد فرعون في‮ ‬بذل الجزاء الحسن لهم. وينتقل المشهد إلى خارج المدينة،‮ ‬حيث احتشد الناس،‮ ‬ليشهدوا هذا اليوم العظيم‮..‬ وفي‮ ‬ميدان المعركة،‮ ‬التقى موسى بالسحرة‮.. ‬ثم ما هي إلا كلمات‮ ‬يتبادلها الطرفان،‮ ‬حتى‮ ‬يلتحم القتال‮..‬ ويدعو موسى السحرة إلى أن‮ ‬يبدؤوا المعركة،‮ ‬وليصدموه الصدمة الأولى بكل ما معهم. إن كل ما معهم هي‮ ‬حبال وعصيّ،‮ ‬شكلوها على صفات خاصة،‮ ‬حتى إذا ألقوا بها اضطربت اضطراب الأفاعي والحيّات‮.. «‬فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ‮ ‬فَإِذا هِيَ‮ ‬تَلْقَفُ‮ ‬ما‮ ‬يَأْفِكُونَ‮»..‬ وهكذا في‮ ‬لمحة خاطفة،‮ ‬يتبدد هذا السراب،‮ ‬وتختفى أشباح هذا الضلال‮.‬وإذا موسى وقد ملك الموقف،‮ ‬واستولى على كل ما في‮ ‬الميدان من مغانم‮..!‬ وإذا هذا الهرج والمرج،‮ ‬وهذا الصخب واللجب،‮ ‬يتحول إلى صمت رهيب،‮ ‬وسكون موحش،‮ ‬لا‮ ‬يقطعه إلا السحرة،‮ ‬وقد استبدت بهم نشوة‮ ‬غامرة،‮ ‬وغشيتهم صحوة مشرقة،‮ ‬وإذا هم‮ ‬يخرجون من أحشاء هذا الصمت الرهيب،‮ «‬َفأُلْقِيَ‮ ‬السَّحَرَةُ‮ ‬ساجِدِينَ‮ ‬قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ‮ ‬الْعالَمِينَ‮ ‬رَبِّ‮ ‬مُوسى وَهارُونَ‮» ‬ويعود الهرج والمرج،‮ ‬وتختلط أصوات الاستهجان بالاستحسان،‮ ‬ثم تحتبس الكلمات على الألسنة،‮ ‬ويفيق القوم من وقع هذه الصاعقة،‮ ‬إذ‮ ‬يذكرون أنهم في‮ ‬حضرة‮ «‬فرعون‮» ‬فتتعلق به الأبصار‮.. ليرى ‬الناس ما‮ ‬يصنع فرعون،‮ ‬أو‮ ‬يقول. والحساب هنا مع السحرة أولاً،‮ ‬الذين خذلوا فرعون،‮ ‬وأذلوا كبرياءه،‮ ‬وأعلنوا فضيحته على الملأ‮. ‬ويضرب فرعون والحديد ساخن «لَأُقَطِّعَنَّ‮ ‬أَيْدِيَكُمْ‮ ‬وَأَرْجُلَكُمْ‮ ‬مِنْ‮ ‬خِلافٍ‮ ‬وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ‮ ‬أَجْمَعِينَ‮» ‬فأجابه السحرة «قالُوا لا ضَيْرَ‮» ‬أي‮ ‬لا ضيم،‮ ‬ولا خسران علينا،‮ ‬إذا ذهب من بين أيدينا كل شيء،‮ ‬ولو كانت حياتنا،‮ ‬وسلّم لنا إيماننا الذي‮ ‬أشرقت شمسه بين جوانحنا‮.‬

مشاركة :