القرآن كتاب الله القويم، وحبله المتين، والذي أعجز العرب وهم سادة البلاغة والفصاحة، يتضمن آيات قد تحتار فيها العقول، لما فيها من غموض. ومن هذه الآيات قول الله تبارك وتعالى في سورة الشعراء «فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» (83) فما عدد هؤلاء السحرة؟ ومن قادتهم؟ وما هي مطالبهم وماذا كان مصيرهم؟يقول جلال الدين السيوطي في «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن»: «فجُمِعَ السَّحَرَةُ» أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كان السحرة سبعين رجلاً. وعن كعب: أنهم كانوا اثني عشر ألفاً. وعن أبي ثمامة قال: كانوا سبعة عشر ألفاً. وعن محمد بن كعب القرظي: كانوا ثمانين ألفاً. وعن ابن جرير: كان اجتماعهم بالإسكندرية. وسمى ابن إسحاق رؤساءهم: سابورا، ونادور، وشمعون.وجاء في «مختصر ابن كثير» لمحمد على الصابوني: «لما جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر، وكانوا إذ ذاك أسحر الناس وأصنعهم، وكان السحرة جمعاً كثيراً وجماً غفيراً، قيل: كانوا اثني عشر ألفاً، وقيل: خمسة عشر ألفاً، وقيل: غير ذلك، والله أعلم بعدتهم. واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم، وقال قائلهم: لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبون، ولم يقولوا نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى، بل الرعية على دين ملكهم «فلما جاء السحرة» أي إلى مجلس فرعون، وقد جمع خدمه وحشمه، ووزراءه ورؤساء دولته، وجنود مملكته، فقام السحرة بين يدي فرعون يطلبون منه الإحسان إليهم إن غلبوا فقالوا: «أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذاً لمن المقربين» أي وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي، فعادوا إلى مقام المناظرة.يوم مشهودويوضح الشعراوي في تفسيره المعروف ب«الخواطر» فجمع السحرة لميقات يوم معلوم، وكان يوماً مشهوداً عندهم، ترتدي فيه الفتيات أبهى حللها، وكان يوم عيد يختارون فيه عروس النيل التي سيلقونها فيه، فحدد اليوم، ثم لم يترك اليوم على إطلاقه، إنما حدد من اليوم وقت الضحى «وأن يحشر الناس ضحى»: وفي لقطة أخرى حدد المكان، فقال: «مكاناً سوى» (طه) 58: يعني: فيه سوائية، إما باستواء المكان حتى يتمكن الجميع من رؤية هذه المباراة السحرية، بحيث تكون في ساحة مستوية الأرض، أو يكون مكاناً سواسية متوسطاً بين المدائن التي سيجمع منها السحرة، بحيث لا يكون متطرفاً، يشق على بعضهم حضوره. وقبل جمع السحرة شاور فرعون أتباعه على إتمام المناظرة مع موسى أم لا؟ وفي هذا يقول الشعراوي: «ونرى في هذه المشورة حرص الملأ على إتمام هذا اللقاء، وأن يكون على رؤوس الأشهاد، لأنهم يعلمون أنها ستكون لصالح موسى، وسوف يفضح هذا اللقاء كذب فرعون في ادعائه الألوهية وأخذوا يدعون الناس، وكأنهم في حملة دعاية وتأييد، إما لموسى من أنصاره الكارهين لفرعون في الخفاء، وإما لفرعون، فكان هؤلاء وهؤلاء حريصين على حضور هذه المباراة. بين سحرة من يدعي الألوهية وموسى الذي جاء برسالة جديدة يقول: إن له إلهاً غير هذا الإله؟ إنه حدث هزَّ الدنيا كلها، وجذب الجميع لمشاهدته». وجاء في «التفسير القرآني للقرآن» لعبدالكريم يونس الخطيب: ارتأى القوم في موسى أنه ساحر فليلقوه بسلاح مثل سلاحه. وليجمعوا له السحرة من كل مكان! فها هم أولاء السحرة قد جيء بهم من كل مكان، وقد أنذروا بالسّحر الذي سيلقونه وبالساحر الذي سيرميهم بسحره، وباليوم المعلوم الذي تلتحم فيه المعركة: «فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» ثم ها هم أولاء دعاة فرعون، ينطلقون بين الناس، يغرونهم بالاحتشاد لهذا اليوم، وبشهود تلك المعركة. بين السحرة، وبين الساحر.. وهذا الحشد للناس. غايته، شدّ ظهر هؤلاء السّحرة، وإلقاء الرعب في قلب موسى بهذه الحشود التي تتربص به، وتنتظر الهزيمة له، لتسخر منه أو تفتك به.هزيمة فرعونثم ها هم أولاء السحرة، يلتقون بفرعون قبل المعركة، ليتلقّوا كلمته، وليعرضوا بين يديه ما معهم من أسلحة قد أعدوها للقاء هذا الساحر.. ثم يعرضون على فرعون مطلباً خاصّاً بهم، وهو الجزاء الذي سيجزيهم به فرعون إذا هم حققوا له النصر المبين. ولا يتردد فرعون في بذل الجزاء الحسن لهم. وينتقل المشهد إلى خارج المدينة، حيث احتشد الناس، ليشهدوا هذا اليوم العظيم.. وفي ميدان المعركة، التقى موسى بالسحرة.. ثم ما هي إلا كلمات يتبادلها الطرفان، حتى يلتحم القتال.. ويدعو موسى السحرة إلى أن يبدؤوا المعركة، وليصدموه الصدمة الأولى بكل ما معهم. إن كل ما معهم هي حبال وعصيّ، شكلوها على صفات خاصة، حتى إذا ألقوا بها اضطربت اضطراب الأفاعي والحيّات.. «فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ».. وهكذا في لمحة خاطفة، يتبدد هذا السراب، وتختفى أشباح هذا الضلال.وإذا موسى وقد ملك الموقف، واستولى على كل ما في الميدان من مغانم..! وإذا هذا الهرج والمرج، وهذا الصخب واللجب، يتحول إلى صمت رهيب، وسكون موحش، لا يقطعه إلا السحرة، وقد استبدت بهم نشوة غامرة، وغشيتهم صحوة مشرقة، وإذا هم يخرجون من أحشاء هذا الصمت الرهيب، «َفأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ» ويعود الهرج والمرج، وتختلط أصوات الاستهجان بالاستحسان، ثم تحتبس الكلمات على الألسنة، ويفيق القوم من وقع هذه الصاعقة، إذ يذكرون أنهم في حضرة «فرعون» فتتعلق به الأبصار.. ليرى الناس ما يصنع فرعون، أو يقول. والحساب هنا مع السحرة أولاً، الذين خذلوا فرعون، وأذلوا كبرياءه، وأعلنوا فضيحته على الملأ. ويضرب فرعون والحديد ساخن «لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» فأجابه السحرة «قالُوا لا ضَيْرَ» أي لا ضيم، ولا خسران علينا، إذا ذهب من بين أيدينا كل شيء، ولو كانت حياتنا، وسلّم لنا إيماننا الذي أشرقت شمسه بين جوانحنا.
مشاركة :