قبل عام وشهرين كنت تعرفت إليه. كانت هناك لوحات صغيرة مركونة في الأرض على الجدار ما كان في إمكاني أن أتجاوزها. سحرني جمال نسائها الخفي بلذة معانيه. مزيج انطباعي لا يخفي رغبته في أن يتسلل بخفة إلى التجريد، من غير أن ينحاز بتشدد مدرسي إلى اسلوب بعينه. كان هناك فراغ ملأته العاطفة بخجل حنانها. كان هناك شيء كثير من الرسم في تلك اللوحات الصغيرة. لم تكن هناك استجابة للعفوية أو الصدفة. كان كل شيء في تلك اللوحات يقع في مكانه، مفكراً بتأثيره البصري. لقد تمنيت أن يكون ذلك الجمال حياً لنذهب بصحبته إلى البحر القريب. كنا في جميزة بيروت، وكان الرسام، رسام تلك اللوحات يقف قريباً مني، من غير أن أدري. كان الرجل قبل دقائق قد حدثنا عن محنته في حلب التي صار يصعب عليه الوصول إليها «إنهم يتقاتلون هناك» قال بلهجة مستسلمة، فيها الكثير من الصبر. كنت أود أن أحض الرجل الذي اكتفيت بصفته نحاتاً على أن ينظر إلى تلك اللوحات الجميلة حين فاجئي بالقول «أنا من رسمها. إنها لوحاتي»، كان ذلك الرجل هو زهير دباغ، الذي يقيم الآن معرضاً شخصياً لرسومه ومنحوتاته في (آرت أون 56) -بيروت. قبل عام التقينا، لكنّ عاماً مضافاً من الحرب في سورية كان كفيلاً بأن يغير كل شيء. سيكون مخجلاً أن أقول له «كم تغيرتَ يا صديقي». غير أن ما يؤلمني فعلاً أن ذلك الرجل الرقيق وقد انحاز إلى مصير نسائه الحلبيات، صار يتأسف على وعده الجمالي القديم. لن يكون الخطأ في الرسم، ولا في الرسام، ولا في النساء اللواتي رسمهن في لحظة انفعال. سيكون الخطأ كامناً في اللحظة التاريخية التي لن تجعل الرسم ممكناً، إلا باعتباره وصفاً مأسوياً لزمن تاريخي عصيب. ما من شيء في شخصية زهير دباغ يوحي بقلقه التاريخي. ابن حلب الذي يتكئ على جدار من موسيقى هانئة تؤلفها أصوات وافدة من السماء. هل كان يكتفي برسم ما يراه؟ لا أحد في إمكانه أن يلومه. النساء اللواتي أحببتُهن في لحظة شغف، كانت الحرب كفيلة بإلحاق الضرر بجمالهن. سيقول لنا: «إن ما لم يره أحد قد رأيته بنفسي». لوحاته اليوم لا تنعم بذلك النغم الانطباعي المجرد القديم. لم يعد في إمكانه أن يتذكر ليرسم. صار الواقع يلح عليه، وهو واقع مضن، لا يبلغ فيه الجمال هدفه إلا متشنجاً. «لم أعد أرى إلا شظايا ذلك الجمال» مرتبكاً يقف أمام حورياته اللواتي صرن يعبرن إلى الضفة الأخرى بقوارب مثقوبة. صار الجمال صعباً. هناك حمولة من الألم يصعب تخيلها. قبل سنة لم يكن زهير دباغ يتخيل السوريات لاجئات، مشردات ومشاريع اغتصاب. كان يحلم بحلب أخرى. حلبه اليوم صارت مختلفة. هي حلب نسائه اللواتي لم يعد لديهن أحد ليشقى من أجل أن يكتشف المسافة التي تفصل بين الجمال وخياله. جمال يدمره الرعب. شيء من اولئك النسوة في إمكانه أن يُعيد رسم الخرائط من جديد. ولكن ما الذي يحدث هناك لكي يكون الجمال محاطاً بالشبهات؟ سيكون زهير مخلصاً لفكرته عن جمال نقي، لن يتمكن بذاته من أن يعبر الحواجز الوطنية. هناك جمال معتقل. في حلب وهي مدينته، سيكون عليه أن يخترع أسباباً لجمال يخفق في الوصول إلى هدفه. لن يفشل في الوصف، غير أنه يرغب في الذهاب أبعد من الوصف. هناك ما يؤلمه. كان يحلم في ما مضى بأن يكون الغرام مادة لوصف جاهز. سيكون الرسم جاهزاً لاستقبال ذريعته في الوصف. يحط الجمال في النساء حين يرغب في منح الطبيعة إجازة من قلقه. ولكن نساء زهير دباغ يخرجن من الحرب محطمات. يحملن جمالهن إلى المنافي باعتباره ذكرى. من المؤكد أن دباغ كان يتعذب وهو يرسم نساء، يعرف أن جمالهن الكامن لن يخترق حائط الدموع الذي صار يفصله عنهن. نساءالقادمات من حلب
مشاركة :