عبدالجبار الغضبان رسام النساء القادمات من الحكاية بقلم: فاروق يوسف

  • 2/11/2018
  • 00:00
  • 22
  • 0
  • 0
news-picture

الرسام عبد الجبار الغضبان صنع تاريخا يتخطى منجزه الإبداعي ليمتزج بصورة الفن في بلاده ما اهتدى إليه الفنانون البحرينيون من أساليب حديثة في الرسم.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2018/02/11، العدد: 10897، ص(9)]المعلم بعصا الموسيقي بعد أربعين سنة من الرسم يبدو العالم بالنسبة له منقسما بين قارتين. قارة تقيم فيها المرأة أو هي المرأة وقارة تقيم عليها كل الأشياء التي لا يمكن أن تُرى إلا من خلال حضور المرأة. لم يرسم عبد الجبار الغضبان إلا نساء، تجمعه بهن عاطفة لا محل للشهوة فيها. الهمته المرأة رفعتها فصار يهذب خطوطه وهو حفار عريق بما يعبر عن شعوره بقداسة ما يُرى. لوحاته التي تشبه الايقونات توحي برغبته في تطويب نسائه قديسات في زمان ومكان مطلقين، ذلك لأنه لم يلجأ إلى استعمال رموز واشارات تشير إلى بيئة ثقافية بعينها، بالرغم من أن الناظر إليها لابد أن تغمره تلك اللوعة الشرقية المنغمسة بهذيانات حكاياتها. كان يمكن أن يكون الغضبان رسام حكايات لولا أنه اعتمد الاقتضاب والشد والتوتر في لغته المنفعلة بظهور فاتناته اللواتي يمارسن سحرهن عليه كما لو أنه لم يتعرف عليهن من قبل. أربعون سنة وهو يرسمهن ولا يزال يشعر بأن عالمه لم يكتمل ذلك لأنه لم ينته بعد من رسمهن. لذلك لم يكن غريبا أن يلجأ إلى الأزرق، لون السماء باعتباره الصبغة التي تقرب لغزه من واحد من أعظم معاني مفهومه المطلق. بالنسبة للفنان البحريني فإن المرأة كائن ينحدر من السماء. رسام نسائه هو غير أنه كان في الوقت نفسه معلما. لقد تزامنت سيرته رساما محدثا مع سيرته معلما محترفا. لو لم يفتتح الغضبان مشغله للحفر الطباعي “كرافيك” لتأخر ظهور ذلك الفن سنوات طويلة. وهو ما يضعه في موقع ريادي لم يكن يميل إلى تكريسه لا بسبب تواضعه بل بسبب شعوره بأنه يفعل ما يهب حريته معنى. الغضبان رسام حر. مديح الجمال بالنسبة له هو خلاصة الواجب الذي يؤديه الفنان في مواجهة الوضع البشري. لقد الهمنا الغضبان فكرته. ليس العالم موجودا إلا إذا نُظر إليه من خلال المرأة. ولد الغضبان في المنامة عام 1953. في بداياته كان مولعا برسم المناظر الطبيعية وقد تركت علاقته بالرسامين الرائدين ناصر اليوسف وعبد الكريم البوسطة أكبر الأثر في توجهه الفني. معلم الحفر وصديقه الرسام درس فن الحفر الطباعي “غرافيك” في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق التي غادرها عام 1981 ليعود إليها عام 1989 من أجل إقامة معرضه الشخصي الأول، وكان قبله قد شارك في معارض جمعية البحرين للفنون التشكيلية. في العام نفسه أقام معرضه الشخصي الثاني، لكن في البحرين هذه المرة كما أنشأ محترفه الشخصي لفن الحفر الطباعي الذي أطلق عليه اسم “عشتار”. من خلال محترف عشتار عرفت البحرين لأول مرة ذلك الفن فكان فرصة بالنسبة للفنانين البحرينيين للتعرف عليه وتعلمه. كان عباس يوسف وجمال عبد الرحيم من أوائل الفنانين الذين تعلموا فن الحفر على يد الفنان الغضبان. بعد ذلك ظهرت ثنائية “عباس يوسف وعبد الجبار الغضبان” في معارضهما المشتركة بالرغم من اختلاف اسلوبيهما. وكما يبدو فإن ما يجمعهما من طرق في التفكير في الفن والإنسان كان أكبر من أن يقف أمامه اختلافهما الاسلوبي. صداقة فريدة من نوعها عززت موقعهما في المشهد الفني العربي، فأقاما معارضهما المشتركة في مدينتهما وفي الكثير من المدن العربية، وكانا يحضران المنتديات واللقاءات الفنية سوية. المرأة كائن ينحدر من السماء جبار وعباس كانا عنوانا لمغامرة الحفر الطباعي بالرغم من أنهما لم يكفا عن الرسم. ولأنهما شعرا أن الظاهرة التي ارتبطت بثنائيتهما باتت في طريقها إلى الافول فقد قررا أن ينفصلا في الوقت المناسب، بحيث صار كل واحد منهما يعرض أعماله بمعزل عن الآخر في السنوات الأخيرة. وهو من وجهة نظري انجاز مهم في تاريخهما الشخصي. كانت ظاهرتهما ابنة زمانها الذي مضى. المتمرد في صومعته تعلم الغضبان الرسم أكاديميا في سوريا، غير أنه حرص بقوة على أن لا يكون ابنا للمدرسة السورية من جهة أسلوبه في الرسم. لقد هضم تقنيات الرسم والحفر الطباعي هناك غير أن ذلك لم يدفعه إلى التأثر بأساليب معلميه. لقد كان مسكونا بمزاج خليجي يختلف كليا عن مزاج المتوسط. نساء الغضبان الطالعات من خرافة شعبية يتخذن طابعا رمزيا يوحي بالحكاية ولا يرويها. الوصف كله مشتبك بالشكل لا بالموضوع الذي لو سحبت منه الأشكال المبتكرة لبدا عاديا. يهب الرسام البحريني الوقائع اليومية العادية نوعا من السحر ليلحقها بعالم ما ورائي، يمكن للمرء أن يدرب حواسه فيه على لذائذ لا تقع كل يوم. بهذا المعنى تبدو نساء الغضبان كما لو أنهن قادمات من مكان خفي، بالرغم من أن حكاياتهن المسلية والأليفة تسكن أصواتها ذاكرة البسطاء. وفي هذا انما يخلص الرسام إلى فلسفته في النظر إلى ترف داخلي تعيشه الروح لينعكس في ما بعد على الجسد. مزاج الغضبان القريب من أحلام الناس البسطاء ينبعث من رغبة عارمة في تحدي فقر أولئك الناس بالجمال الذي تنطوي عليه أحلامهم. وهنا بالضبط تكمن واحدة من أهم عناصر الهوية التي اقترحها الغضبان على الرسم الحديث في البحرين. معلم الحفر الطباعي كان في حقيقته مبتكر لوحة تنتمي إلى المكان رغبة منه في إعادة خلق ذلك المكان بما يتناسب مع حقيقته. كان محترف “عشتار” صومعة لمتمرد نظر على الرسم من جهة ما ينطوي عليه من عدالة. لوحات تشبه الايقونات لأنه حفار فقد كان الخط حاضرا بقوة في لوحاته. كل حيوية في تلك اللوحات انما تصدر عن الخطوط التي تلهم حساسيتها الرسام طاقة تندفع به في اتجاهات مختلفة. هذا رسام يتبع خطوطه التي تجري بهدوء من غير أن تتقطع. يمتعه أن يرى خطوطه وهي تنبعث من داخل السطح كما لو أنها تذكر بوجودها الذي سبق ظهورها العلني. يهمه أن يؤكد الخط استقلاله لا باعتباره عنصرا من بين عناصر عديدة تتألف منها اللوحة بل باعتباره مايسترو اللحظة التي تنبعث فيها الموسيقى. يرسم الغضبان بعصا المايسترو. يكاد الجمالي هنا يمتزج بالتاريخي. فالمعلم هو قرين الرسام. وهما دوران لعبهما الغضبان بأريحية، مخلصا لحرفته. فما تعلمه الرسام من يد الصانع كان قد وضع الالهام في مكانه الصحيح. لقد أتيح لعبد الجبار الغضبان أن يضع درسه على الطاولة مباشرة. كانت معادلته تقم على طرفين هما العمل بما يشبه الكدح والالهام الذي يهب القدرة على التحليق. الرسام التعبيري كان في ولا يزال في حقيقته ابن الحرفة التي يهبها الالهام شفافية عالم في طريقه إلى التشكل. الدرس في خلاصته يعتز الغضبان بانتمائه إلى المدرسة التعبيرية. يمكنه بثقة أن يفكر بالنروجي ادفارد مونخ غير أنه يحن إلى طليعيي النمسا وفي مقدمتهم غوستاف كليمت. غير أن وصفته لم تكن يوما جاهزة. كانت ينصت إلى أصوات غامضة تنبعث من أعماقه. ولأن لكل رسام تعبيري حكايته الأدبية فقد مضى الغضبان وراء شغفه بالأنوثة التي هي سلسلة من الحكايات التي تذكر بشهرزاد. كانت خلاصة الدرس الذي انتهى إليه الرسام تكمن في أريحية المعلم الذي لا يزال يتعلم كما لو أنه لم يعرف شيئا عن عالم النساء. صنع عبد الجبار الغضبان تاريخا يتخطى منجزه الإبداعي ليمتزج بصورة الفن في بلاده. شيء منه يقيم في ما اهتدى إليه الفنانون البحرينيون من أساليب حديثة في الرسم.

مشاركة :