من المقرر لدى كل فلاسفة السياسة وعلمائها أن «المشاركة الشعبية» في الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية تمثل لب الديمقراطية وجوهرها. فكل الأنظمة الديمقراطية، مهما تباينت في كثير من النواحي، تلتزم بهذا المبدأ ولا تحيد عنه. ومما لا شك فيه أن المشاركة هنا ليست ترفا مدنيا يمارسه المواطنون بل هي حاجة ضرورية تهدف لإعادة توزيع علاقات القوة داخل المجتمع وتهدف كذلك إلى إحداث تغييرات جوهرية في الوضع السياسي القائم من خلال المشاركة في صنع القرار أو توجيهه. فالديمقراطية كفلسفة سياسية واجتماعية تذهب إلى أن المجتمع ليس كلا متماثلا منسجما وإنما هو فضاء من المصالح المتضاربة والمتنوعة وميدان لشرائح اجتماعية وعرقية مختلفة. كما أن المشاركة تعطي اعتبارا كبيرا للأقليات والمجموعات الهامشية. من المقرر كذلك لدى كل الفلاسفة والعلماء المهتمين بالسياسة والمجتمع أن «مبدأ الحرية» يعد عنصرا جوهريا مكونا للعمل الديمقراطي. بل إن أي نظام ديمقراطي صغر أو كبر لا يمكن له أن يتنازل عن مبدأ الحرية وإلا انهارت الديمقراطية من أساسها. والحرية كما هو معروف تمثل مع مبادئ العدالة والمساواة والمشاركة ونحوها أساس الديمقراطية. فما هي معضلة الديمقراطية؟ وما علاقتها بالحرية والمشاركة؟ لنتصور الوضع التالي: ماذا لو امتنع الناس في بلد «ديمقراطي» معين عن «المشاركة» السياسية؟ ماذا لو لم يذهبوا للتصويت مثلا ؟، ولا يخفى عليكم أن هذه المشكلة تؤرق المهتمين بالفكر الديمقراطي عموما وتؤرق السياسيين في أي بلد ديمقراطي. ما هو الحل إذن؟، مبدئيا سنكون أمام حلين؛ الأول هو أن تقوم الحكومة باحترام «حرية» الناس في «عدم المشاركة». فليس للحكومة أن تجبرهم على المشاركة وإلا فإنها ستكسر مبدأ الحرية. والنتيجة إذن غياب المشاركة. لكن وكما أسلفنا المشاركة «لـب» الديمقراطية وبدونها لن تكون ديمقراطية بعد. إذن فالحل الأول (احترام حرية الناس بعدم المشاركة) لا يعد في الحقيقة حلا بل هو هدم للديمقراطية من أساسها لأن الامتناع يعني من ضمن ما يعني تعطيل دور مؤسسات المجتمع المدني التي تعد القنوات الضرورية أو المجال الحيوي للمشاركة الشعبية. الحل الثاني هو أن تقوم الحكومة «بإجبار» الناس على المشاركة. لكننا سنقع في مشكلة مشابهة؛ فنحن بإجبار الناس على تفعيل مبدأ المشاركة نهدم بالتالي مبدأ آخر وهو الحرية. والحرية أساس جوهري للديمقراطية وبانتهاكها تنهار الديمقراطية جملة وتفصيلا. ولا يخفى عليكم أن بعض البلدان التي تدعي الديمقراطية وهي في أساسها ديكتاتورية ترغم الناس على المشاركة وعلى ــ مثلا ــ الذهاب للتصويت. وهذا في النهاية ليس حلا.. المعضلة إذن هي أن الحلول المطروحة تنتهي بنا إلى مشكلة. وبرأيي أن المعضلة ــ كأغلب المعضلات الفلسفية والعلمية والاجتماعية ــ يتم توكيدها وعرضها من خلال عملية فصل إجرائي بين الواقع المعاش والإطار النظري للمعضلة. والحل الأكثر جدوى هو محاولة حل المعضلة داخل أفق الواقع المعاش لا النقاش النظري المحض. فالناس واقعيا وبالضرورة سـ «ـيشاركون» ولا يمنعهم من المشاركة إلا شيء واحد: أنها لا تؤدي الغاية التي تهدف لها: التغيير والإصلاح في الوضع الراهن. لذا ومن دون التهور بحلول قد تفضي إلى هدم الديمقراطية فإننا يجب أن نلتفت ليس إلى مبدأ المشاركة وإلى الناس بل إلى الحكومة القائمة والمشرفة على «الوضع الراهن» المراد تغييره أو تطويره. فعزوف الناس عن المشاركة دليل قوي على فشل النظام السياسي القائم وليس فقط الحزب الحاكم الراهن الذي قد لا يختلف نوعيا عن الأحزاب المنافسة له.
مشاركة :