اللحظة: ما الذي في صوتِكِ النديانِ يا عُمّري! وماذا في ضلوعي! ما الذي ينثالُ في سمعي فَيَهْمِي في دموعي! كحليبٍ دافئ يقطرُ في الثغر الرضيع ما الذي يستنبتُ الأشواكَ في جفني فيجفوني هجوعي! كيف في داجٍ من الأحزان أوقدت شموعي نظرة تنهلُّ بالنجوى فتبتلّ ربوعي لحظةٌ تمتدُّ في عمري فتستحيي ربيعي أشعلتْ باللمسة العذراء ثلجي وصَقيعي «لحظة رومانسية في زمن صعب: الدكتور سعد مصلوح» الهامش النقدي: إنها لحظة تعدل عمرا، وهي عمر ضمته أكمام لحظة مونقة سعيدة، تحدّر فيها- على درج الوقت- الصوت الندي، والنظرة المناجية، واللمسة الفريدة «العذراء». وتنجذب إلى الثالوث الموقّع أقطار النفس والحس، انجذاب الروح إلى النغم والحنين، والقطرة الحائرة في السموات إلى حضن زهرة باتت ليلتها تغالب الصدى. الصوت يتشكل عبر دورة حياة كاملة في الضلوع، وفي السمع، وفي الدموع، ثم يأتي دوره فيهب الحياة من جديد، لمن يعيش على الذكرى أو ألقى سمعه وهو حبيب.. وهل يهب الحليب في جسد الرضيع إلا الحياة؟ الصوت عميق ملهم، والصوت إيقاع عطوف، ينثال، ويهمي، ويقطر... واللحظة الحالمة فرّت من الجنة إلى الأرض، وعركت واقعها، والواقع ليس حالما أبدا، لا يزال يطوق الإنسان بوقائعه المحزنة، ويهدر بالأهوال.. اللحظة تواجه أشواك الواقع ولا تهرب منه، وترقى بالأحزان، وتستنبت الحب في زمن القسوة، ولم يكن هذا العنصر المعاكس جارحا لرومانسية اللحظة، بقدر ما أعطاها ذلك القدر اللازم من الحيوية والعمق، وأعتقها من دائرة التهويمات العاطفية الساذجة، والرخاوة التي يهوي إليها بعض الشداة. واللحظة ليست عابرة بحال للدربة الفنية الرفيعة، ولا متجاوزة لمطالب الفن الصحيح، بل مكتنزة بالجماليات تجسد وتشخص، وتنادي، وتزرع السؤال في أفق السكون. وإذا كان الإحساس يبدو طازجا، خارجا لتوه من حديقة القلب، فإنه ولا ريب موصول بإحساس عريق، متجذر في عروق الإنسانية، لا يبدأ من عند «قوم إذا عشقوا ماتوا...» ،ولا ينتهي عند من «جفنه علم الغزل»... إنه الحب الخالد الذي يغمر العمر، في كل مراحله، ولاغرو فالشعور بالزمن ليس ثابتا، وليس متلازما بالعمر الحقيقي، فالصغير حين يحب يتعلق بأذيال الكبار، والكبير حين يعشق يقيم معبدا للشباب، تسرج فيه مصابيح الأمل والإقبال... لقد ختم «جوته» كتاب غرامياته الطويل، بـ «أولريكه» حبه الأخير، وهو في الرابعة والسبعين، وكتب: «تحت شمس نظرتها الساطعة وأمام ربيع أنفاسها العاطرة تذوب- بعد طول جمودها في مغاور الشتاء- ثلوج الكهولة الموحشة المتوحدة..» إنها لحظة - لحظة شاعرنا الرومانسية - تجوب دروب العمر، فتجلب الصبا والشباب، وتوجد الوجد، وتأخذنا مع الحرف المعتق الموقع إلى دنيا الأشواق.
مشاركة :