ملحمة التلاحم الوطني في السراء والضراء - د.فوزية أبو خالد

  • 10/5/2016
  • 00:00
  • 52
  • 0
  • 0
news-picture

هناك أمور لا تبرد بمرور الوقت ولكن مرور الوقت يمكن أن يكون عامل إشعال وتفاقم كما يمكن أن يكون عامل تهدئة وموضوعية. ولو أكتفينا من باب الإيجابية بالتركيز على احتمال العامل الثاني دون التهاون بالاحتمال الأول أو استبعاده تمامًا, فإن مرور الوقت قد يتيح رؤية تحتاجها الأمور المعنية لرؤيتها عن قرب وعن مسافة معًا لقراءتها من جميع الجوانب ولتقديرها حق قدرها أو على الأقل لوزن عواقبها أو ما يترتب عليها. وفي ضوء أسبوع من الوقت ليس إلا يمكن أن نضع أيدينا على عدة قراءة للقرارات الحكومية الأخيرة القاضية باللجوء لدخل المواطنين من موظفي القطاع العام لتعويض التناقص في دخل الدولة الذي جاء نتيجة الانخفاض الحاد في أسعار النفط كمصدر أساسي إن لم يكن وحيدًا للدخل الوطني من ناحية، ونتيجة لواقع الحروب التي تكاد تطوق المنطقة ككل وتلك الحرب التي فرض على البلاد قيادة التحالف العربي الخليجي فيها لمواجهة العدوان الحوثي على الحد الجنوبي السعودي وللمعونة على استعادة الشرعية في اليمن من أيدي فلول المخلوع وميليشيات إشعال الفتنة الطائفية باليمن المدعومة من قبل النظام الإثوقراطي في إيران. وقد تعددت القراءات لهذه القرارات كل حسب زاوية النظر أو موقع القدم الذي يقف فيه ويطل على القرارات منه أو يتماس معها من خلاله، وإن كان ليس عندي أدنى شك بأن كل تلك القراءات على اختلافها وبتنوعها تلتقي في إجماع متلاحم عند مصب مشترك أاسمه حب الوطن. فلا مواقف النقد المعارضة تصدر عن عداء ولا مواقف التوافق الموالية تصدر عن رياء، فكلا من الموقفين بأطيافه يحتمل التعبير عن حب الوطن بطريقته الخاصة عبر مكانه على السلم الاجتماعي وموقعه من مرمى النظر وقربه أو بعده من مسرح الحدث. كان هناك القراءة التي أتت بمعزل عن عامل الوقت وإن جاءت في أعقاب صدور تلك القرارات مباشرة إلا أنها غالبًا ما تكون مرتبطة بمواقف مسبقة أو استباقية فلا علاقة مستقلة لموقفها بالوقت لأنها تكون جاهزة لكل زمان ومكان بمجرد أن يعلق الجرس. وهي القراءات التي تروم التعبير عن الصوت الرسمي بتكليف منه أو من دون ذلك التكليف، أو لمجرد التعبير عن تطابق في الموقع وزوايا النظر معه، غير أنها بحكم قربها من مصباته أو توخيًا للوصال معها، عادة ما تسارع لإطلاق البخور ورش الورود ونثر الأرز على قراراته وتصريحاته. وهذه القراءات عادة ما تكون أيضًا من الوضوح والمباشرة في «استحسانها لتلك القرارات ومبالغاتها البلاغية في مديحها لكل من المسؤول والمواطن معًا بحيث لا يعول أي منهما أي لا المواطن ولا المسؤول على استخلاص رأي استرشادي بحقيقة قبولها أو رفضها من قبل المجتمع أو بحقيقة ضررها من نفعها. وهكذا كتبت تلك المقالات عن حب وطني ولكن ليس عن تمحيص ولا عن رأي ترشيدي، بقدر ما هي تحصيل حاصل، لموقف مألوف يحاول التسديد والمقاربة بين الحاكم والمحكوم بتزيين القائم أو بقول ليس بالإمكان أفضل مما كان من وجهة نظره. وجاء النوع الثاني من القراءات وهي في الأغلب قراءات تصدر عن موقف متفحص ومتسائل ولكنه رأي يجيء مموهًا أو باهتًا إن لم يبدو غامضًا ممطوطًا أو مجتزءًا في محاولة للتستر على نقديته أو أسئلته وذلك للتماشي مع سقف النشر في الصحف المحلية التي تراوح حسب أريحية وخبرات وتجارب رؤساء التحرير، إلا أنها في مجملها لا تخل من تجنب المشافهة برأي نقدي صريح يقبل الأخذ والرد. فتخرج هذه القراءات إلى الضوء إن خرجت، مثل كتابتي هذه محدودة الفعالية بل محدودة النفع للقيادة صاحبة القرار وللمواطن معًا، حيث يغلب عليها الارتباك والإسهاب في غير محله في محاولة تهريب رأي مغاير أو كلمة حق علها تصل من يهمه الأمر مواطنًا ومسؤولاً دون أن يصادر كامل المقال. وقولي هذا لا يهدف لتكريس ما يجري عادة من لوم البطانة وتبرئة ساحة المسؤول، بل جل ما يفعله هو توصيف حالة قد يكون بطبيعة الحال من حيلها ارتكاب نقيصة نقد فعل والإتيان بمثله. هناك في النوع الثاني من القراءات عدة أطياف على خلاف النوع الأول من القراءات الذي يتميز بطيف مباشر واحد. ومن أطياف النوع الثاني من القراءات على سبيل المثال لا الحصر تلك القراءات التي رغم تمحيصها للقرارات بميزان العقل والمصلحة الوطنية العليا والعامة فإنها تبدو وكأنها حائرة ما بين موقفين. فهي من ناحية تعرف وتقدر الدوافع النبيلة للدولة في اتخاذ مثل تلك القرارات التقشفية لتجنب أي تدهور اقتصادي مستقبلي مخل لا سمح الله، كما أنها تؤمن وترى أن على المواطنين واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا في مآزرة الوطن بشد الأحزمة على البطون في ساعة الله، ولكنها في الوقت نفسه مثلي ترى أن مثل هذه القرارات قد تعقد وضع المواطن وتعقد علاقته مع الدولة دون أن تحل مشكلة الدولة، إلا أنها لا تعرف كيف تتقدم بطلب إعادة التفكير للبحث عن حلول أكثر جذرية وأقل إزعاجًا للدولة والمجتمع. أما نوع ثالث من القراءات وهي قراءات تلوذ من مضائق رقابة الإعلام الورقي بفسحة الفضاء الإلكتروني، فإن المسؤول والمواطن قد يجد في اجتراحها لشفافية النقد وفي قدرتها على المصارحة بالمخاوف والجهر بالأسئلة ما قد يعين الوطن على تعدد التفكير والتفكير المشترك في مواجهة الضائقة المالية التي حدت بنا إلى مثل هذه القرارات كالتداوي بالكي. فكان منها الدعوى إلى رد الأمر لمجلس الشورى للقيام بواجب التفكير المشترك بين الدولة والمجتمع في مثل هذا الشأن الوطني الكبيرالذي يمس واقع المواطن المعيشي مباشرة ويمس أمننا المالي واستقلالنا الوطني بنفس القوة. وكان منها أيضًا اقتراح وضع آلية التحول الوطني موضع التنفيذ ولو تجريبيًا في مجال عدم الارتهان للأحادية المركزية الرأسية في الشؤون التي تتعدى حيز الأداء البيروقراطي الروتيني لجهاز الدولة التنفيذي أي الحكومة لتكون القرارات فيما يمس معيشة المواطن وحياة الوطن قرارات تتميز بالبعد الأفقي الذي يسمح بجعل المواطن في الأمر الجلل كإعادة التوازن الاقتصادي للبلاد شريكًا ومسؤولاً في وضع وصناعة القرار وتحمل الأثمان وليس مجرد موضوعًا للقرارات. والحقيقة أنني هنا سأراهن على بصيرة رئيس التحرير بل وعلى بصيرة صاحب القرار لأقول إن الحل الذي قدم لمشاركة المواطن في أعباء النقص المحتمل في ميزان الدخل الوطني من قبل وزير الخدمة المدنية مشكورًا يعد حلاً أقرب إلى عقلية «الفكة» التي يجري التفكه عليها بتويتر في مصر هذه الأيام. فماذا عساها أن توفر من المال على خزينة دولة بحجم المملكة تلك البدلات والعلاوات لموظفي القطاع العام ممن قد لا يزيد عددهم وإن اتسع على بضع ملايين، خاصة بدلات وعلاوات شريحتهم الأوسع التي تتوزع على الدخول المتوسطة والدنيا؟! فبينما حلت وتحل تلك البدلات والعلاوات إشكالية مستترة وهي إشكالية هشتاق الراتب ما يكفي الحاجة، في دعم (زير الراتب المحدود بنواة البدلات والعلاوة السنوية)، فإن إعادتها لخزينة الدولة لن تكون سببًا في تعبئة تلك الخزينة بالمال ولكنها قد تكون سببًا في تعبئة النفوس بالمرارة والسخط وملء حياتهم بالتعثر والعوز. وإن كنت لا أشك لحظة بطبيعة الحال أن القرار قد راهن على وطنية مواطن أثبت في كل الصروف وقوفه بجانب قيادته وتبادل الحب معها، مع استعداد لا يهن من الطرفين الدولة والمجتمع للتضحية بالغالي والنفس من أجل سلام الوطن. وبما أن الدولة تعلم والمواطن يعلم أننا معًا في السراء والضراء فلا بد من البدائل الحقيقية التي تملك أن تعدل ميزان الدخل الوطني. وهناك بطبيعة الحال ما هو استراتيجي بعيد المدى ومنها ما هو ملح وفي متناول المدى القريب أو المتوسط. وفي هذا الإطار من التفكير الأبعد لا مفر من التفكير جديًا وعمليًا بالتشريعات الضريبية المجزية وليست الرمزية على الشركات الكبرى التي دخلها اليومي بالمليارات وعلى رؤوس الأموال الاستثمارية العارمة بأشكالها النقدية والعقارية وما إليه من أشكال مالية ضخمة لها مسمياتها المصطلحية في سوق المال والأعمال الذي قام لدينا على أكتاف الدعم الحكومي منقطع النظير في السخاء طوال مراحل الطفرات وأوقات الرخاء، ناهيك عن الشركات الاستثمارية مع الخارج في مواقع الداخل وفي كبريات عواصم الخارج. وهذا ليس إلا مقترح من سيل ناجع من المقترحات الوطنية التي يمكن أن تكون حلاً حقيقيًا وليس مجرد تلمس أو تسول لحلول غير جذرية في حال اشتراك المواطن على المستوى المتخصص وعلى المستوى الميداني المعيش في وضع الحلول. لست ضليعة في الشأن الاقتصادي، بل إن معلوماتي أكثر من متواضعة إن لم تكن سطحية وضحلة عندما يتعلق الأمر بالمال ولكني أعتقد أن موضوع القرارات التي تخص الشأن المعيشي للمواطن والشأن الوطني لخزينة البلاد هو شأن سياسي بقدر ما هو اقتصادي ومالي إن لم يكن أكثر ولذا فلا يمكن البحث عن حل من جانب واحد للشؤون الوطنية المركبة.

مشاركة :