منذ التوجه لبناء الدولة الوطنية الحديثة Modern Nation State بتفاوت زمني طويل نسبياً بين مجتمعات شمال الأرض وجنوبها وبين الغرب والشرق دأبت دول العالم ومجتمعاتها على الاحتفال باليوم الوطني للبلاد كتعبير رمزي عن الهوية والانتماء وتجديد العهد بهما عن طريق الاحتفاء على المستوى الرسمي والأهلي ببعده الشعبي الواسع. وعلى تعدد أشكال هذه الاحتفائية العامة من تزيين الشوارع والمباني ورفع البيارق والتظاهرات الابتهاجية الصغيرة والكبيرة والتجمهر في مختلف ساحات الفضاء العام، مع تكثيف الجهد السياسي والإعلامي في بث هذه الاحتفائية وتعميقها في الوجدان العام من الخطب والرسائل القيادية إلى الأناشيد والأفلام والفيديوهات الممجدة للوطن بمناسبة هذا اليوم، فإن البعد العميق لليوم الوطني لا يتوقف عادة وإن بتفاوت نسبي حسب حظوظ المجتمعات والدول من التطور والتقدم.. عند مجرد المظاهر الاحتفائية. وفي ضوء هذا فإن الدول والمجتمعات ومختلف قوى النخب والقاع من الرجال والنساء ومن الموسرين والكادحين ومن المثقفين ومختلف المهن والقطاعات تحتاج كل في حقله وفي الخضم العريض للصالح العام تحتاج لوقفة محاسبة مع الذات الفردية والوطنية لفرز مسيرة وطن بحنانها وقسوتها وبتوهجها وخفوتها وبانكساراتها وانتصاراتها وتحدياتها الماضية والحاضرة والمستقبلية. وإذا كان اليوم الوطني في مجتمعات ودول العالم على اختلاف أشكال أنظمتها السياسية وبناها الاجتماعية وطبيعة العلاقات بين قواها الداخلية وبينها وبين المحيط الجِواري والإقليمي والعالمي.. عادة ما يرتبط بمنجز وطني إما يتعلق بإعادة ولادة وطن أو بتحرر من طاغية أو بخلاص من استعمار ممض أو سواه من الأسباب التي تعني أن مجتمعا ودولة ما قد خرجا من رماد السُبات أو جمر الاستلاب إلى أفق التحرر والاستقلال والبناء مثل المجتمع الأمريكي في خروجه على الاستعمار البريطاني وبناء دولة ديموقراطية موحدة على أرض قارة جديدة مترامية الأطراف (دون أن ننسى فداحة وضع السكان الأصلين) ومثل تحرر الهند ومصر واليمن وسواهما من الاستعمار البريطاني وتحرر الجزائر ولبنان وسواهما من الاستعمار وتحرر جنوب أفريقيا من النظام الأبرثيدي.. فكل تواريخ هذه الحريات المكتسبة في أغلبها بعد نضالات مريرة تحولت إلى تواريخ لليوم الوطني لبلدانها دولا ومجتمعات أي تواريخ تسجل وتوثق لتاريخ وطن وتحديات حاضر وتطلعات مستقبل بتذكرها واستعادة مرارتها وحلاوتها عبر الاحتفاء من ناحية وعبر وقفة مراجعة نقدية موضوعية من الناحية الأخرى. نستعيد بهذا الإطار الموضح فيما تقدم من المقال معنى وهدف اليوم الوطني ونحن نستقبل غدا فجر يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر سبتمبر ذكرى اليوم الوطني لتأسيس المملكة العربية السعودية كدولة مستقلة موحدة على هذا التراب الغالي من أرض الجزيرة العربية. وإذا كنا نرى أهمية ومشروعية المظاهر الاحتفائية التي دأب على التوسع فيها المجتمع السعودي ودولته في العقدين الأخيرين بوتيرة متزايدة وكأنها تعويض عن أيام التحريم والحرمان من الذكرى السنوية إلا على نطاق إعلامي ضيق عبر قناة التلفزيون الرسمي الوحيدة لعدة عقود، كما نرى على غير مبالغة وتسطيح جماليات زينة الأعياد من الألعاب النارية إلى ملابس الأطفال والأوبريهات والأغاني والعرضات والفيديو كليبات والتجمعات والعزايم و»الكيكات» المبتهجة باللون الأخضر كرمز للاستقرار والسلام، فإننا نرى ضرورة ومشروعية الوقفات النقدية الموضوعية المُخلصة التي تعيد لنا جميعا وللأجيال فهم السياق الكفاحي لمعنى ورمزية اليوم الوطني. وفي هذا الصدد يهمني القيام باستعراض بانورامي سريع للتحديات المفصلية التي واجهتها المملكة العربية السعودية لبلوغ المعنى الرمزي لليوم الوطني. - قد نكون نسينا أو غاب عنا في غفلة البترول تحدي التوحد والاستقلال الذي مر به أهل هذه الأرض وقيادتها لبناء هذه الدولة والمجتمع في وسط محدق بالتحديات الاستعمارية الخارجية على أطرافه وحوله وبتحدي التفكك القبلي وعصبته في آن وتحدي تعصباته وتناقضه مع مفهوم الدولة الوطنية العصرية، تحدي التخلف، تحدي الأمية العريضة وتحدي الفقر، والاقتصاد الكفافي، وتحدي جوائح الأمراض الوبائية من الجدري إلى الكوليرا، وتحدي الصراعات السياسية ومغبات التبعية والارتهان لأي هيمنة عسكرية مباشرة للقوى الخارجية المتنفذة وقتها بالإضافة لتحدي الانقسامات الداخلية فيما بين قوى النخب القبلية والدينية وسواها في الداخل ،تحديات تأسيس جهاز إداري للسلطة التنفيذية في وسط عفوي يقوم على العلاقات الشفوية المباشرة، تحدي التحول من ترحال البادية إلى الاستقرار الحضري، تحدي الدمج والتكامل الاجتماعي بين مناطق المملكة المترامية الأطراف وتنوعها الجغرافي والثقافي إلى آخره من تحديات بدايات القرن العشرين إلى ما بعد منتصفه في حياة المؤسس الملك عبدالعزيز. - قد نكون نسينا أو غاب عنا في غفلة المتلاحقات تحدي تعليم البنات بعد إشاعة تعليم الأولاد في سنوات التأسيس الأولى، تحدي الانقلابات العسكرية في الجوار العربي والمآلات الصعبة لبعضها وتحدي سؤال عدواها، تحدي ظهور قوى اجتماعية جديدة بتطلعات عروبية مخالفة لمعهود عقود سابقة وتحدي التعامل معها بين الاحتواء والصدام، تحدي الصراع العربي الإسرائيلي الذي توج بالمشاركة في حرب رمضان/ تشرين 1973 وتحدي الوفاء بالمتطلبات العصرية للدول والمجتمعات دون خدش الغلاف المحافظ للمجتمع والتوجه المعلن في التمسك به للدولة، هذا بالإضافة لمجابهة الأجنحة في الدولة نفسها في لحظة تاريخية إبان العقد الخامس والسادس الميلادي من القرن العشرين. - تحدي تجديد دماء مجلس الوزراء بنخبة الشباب السعودي المتعلمين تعليما مدنيا عاليا، تحدي تصريف الدخل العالي من النفط في أوجه تنموية حقيقية وتحدي توزيعها توزيعا عادلا، تحدي فتح مجالات التعليم العالي للبنات، تحدي حادثة الحرم في عهد الملك خالد، تحدي ظهور النظام الإيراني بصبغته الطائفية الصدامية ،وتحدي الصراع السوفيتي الأمريكي على أرض أفغانستان، وما عكسته تلك الصراعات على الوضع الداخلي وما خلفته من تفاعلات صلبة أو ناعمة، تحدي إنشاء مجلس التعاون الخليجي ومسارات ذلك التحدي وتعثراته ومواجهاته، وذلك أيضاً على امتداد عقد من الزمان. - تحدي انخفاض أسعار النفط إبان الثمانينيات، تحدي التنمية بمفهومها التحولي والتطويري في وسط يربو فيه التشدد بسرعة مطردة مخيفة، تحدي حرب الخليج الأولى واستنزافها المالي والعسكري وتحدي حرب الخليج الثانية برهبتها ومسؤوليتها الوطنية الداخلية والعربية والدولية، وتحدي ما ترتب عليها من تحديات في محاولة الاعتراف ببناء شراكات سياسية- مجتمعية تمثلت في إحياء مجلس الشورى المتوقف منذ عهد الملك عبدالعزيز، وإن جاء المجلس في النصف الأول من عقد التسعينات بصيغة أقرب للتكوين الاستشاري المغاير للتكوينات التشريعية المناطة بالبرلمانات عادة وإن كان في تشكيله نحى لأن يكون تمثيلا رمزيا لكل مناطق المملكة باختلافاتها منتقياً من التشكيلات النخبوية. - تحديات لا تقل تعقيدا جاءت على امتداد عقد التسعينات والعقد الأول من الألفية الثالثة تمثلت في تحدي انتشار التشدد وتفشيه في طبقات المجتمع من القمة إلى القاع إما تقية أو انصياعا وتماشيا مع تيار تشددي طاغ، تحدي عمليات إرهابية في عقر الدار لم يعهدها المجتمع ولا الدولة ، تحدي الصراعات المقنعة أو السافرة بين القوى الاجتماعية بين محاولة تسييد هذا التوجه التشددي وبين محاولة غير مسنودة لمقاومته، ثم تحدي التحديات في التعامل مع ردات الفعل الأمريكي والغربي على تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، ومحاولة النأي بالمملكة دولة ومجتمعا عن أن تكون هدفا عسكريا لا سمح الله للعدوانية التي واجهت بها أمريكا ذلك الحادث كما حدث في احتلال أفغانستان والعراق، تحدي الانتقال من التشدد والظلامية والأحادية إلى الاعتدال والتنوير والتوافق الوطني بما تمثل في برامج الابتعاث الموسع، الانفتاح النسبي في العلاقات الخارجية والمصالحة الوطنية بين قوى الداخل مع استحضار صورة المرأة في المشهد العام بعد ترصد وإقصاء. - واليوم يشهد الوطن تحديات لا بد من تذكرها في اليوم الوطني واستلهام رمزيته في مواجهة هذه التحديات. - تحديات يشهدها الوطن على مستوى المواجهة الخارجية مع قوى إقليمية ودولية غاية في الشراسة لا تبدأ من الخاصرة الجنوبية والتعدي الإيراني، ولا تنتهي عند العلاقة بالدول العالمية النافذة من أمريكا إلى الصين وروسيا وصراعاتهم الجغرافية والاقتصادية والسياسية الباردة والساخنة، بما لا يحدث إلا بالتماس مع استقرار المملكة وتحدي المملكة الاقتصادي والسياسي العظيم في مواجهة ذلك بالكثير من حساسية التوازنات، وتحديات يشهدها الوطن اليوم محليا على عدة مستوياتها ومنها تلك التحولات الكبيرة التي أنجزت فيما لا يزيد عن ست سنوات ولازال علينا ونحن نعيش الذكرى العزيزة لليوم الوطني من ابتكار كيفيات سلمية للتعامل معها لتأتي أكلها المنشود بما نحتاج فيها لتعميق اللحمة الوطنية بين كل عناصر النسيج الاجتماعي بداية من اللحمة بين الأجيال إلى إيجاد صيغ جديدة للشراكات الوطنية بين الدولة والمجتمع نحافظ به وفيه على ما هو أغلى من النفط بالنسبة للمملكة العربية السعودية وهو الوحدة الوطنية والاستقلال والسلم الأهلي والسيادة الوطنية في علاقة سلام مع أنفسنا وجوارنا والعالم.
مشاركة :