قد يعزز انهيار العقد الاجتماعي من فرص فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، ويضاعف موجة التقلبات في الأسواق. إلا أن الاضطراب الشديد ينجم عنه حدوث التغيير المنشود، وخاصة مع وجود حاجة ملحّة لتجاهل الافتراضات الزائفة التي ترتكز عليها المنظومة الاقتصادية اليوم. ها نحن نقترب من بداية الربع الأخير من العام، وسط انخفاض حاد للتقلبات وأسعار الفائدة ومعدلات التضخم والنمو، فضلا عن تفاقم المخاوف، وانعدام المساواة الاجتماعية. ونعتقد أن الاهتمام سيتمحور في هذه الفترة حول انتخابات الرئاسة الأميركية، التي تبدو محتدمة أكثر من أي وقت مضى. كما ستتسم هذه الفترة من العام بضعف الشهية تجاه المخاطر، وخاصة أن الحكومات تنتهج أسلوبا مراوغا حول مقدار الأموال الشحيحة التي ستنفقها على الميزانية. باختصار، يمكن القول إن مضامين في غاية الأهمية ستتكشف في الربع الأخير من العام. الدولار القوي من جهة ثانية، لدينا قناعة راسخة بأن العالم لن يستطيع التأقلم أكثر مع الدولار القوي. ورغم ذلك، واصلنا في «ساكسو بنك» صب جل تركيزنا خلال الأشهر القليلة الماضية على مسألة ارتفاع تكاليف رؤوس الأموال بالنسبة للجهات غير الحكومية، وكذلك تباطؤ التمويل بالدولار، بل وجفاف مصادره أحيانا. ودفعنا ذلك إلى اتخاذ موقف إيجابي على المديين القصير والمتوسط إزاء الدولار، وهو زخم قد يدفع زوج العملات اليورو-الدولار (EURUSD) إلى اختبار المستوى 1.00، وكذلك استقرار تداول زوج الدولار-الين (USDJPY) حول مستوى 100.00. ويتباين هذا الأمر مع رؤيتنا طويلة الأمد المتعلقة بحيازة مراكز قصيرة الأجل للذهب والفضة. وثمة سبب آخر لهذا الاعتقاد الذي برز في نهاية العام حول ارتفاع الدولار، ويكمن في سوق الائتمان. فقد ارتفع فارق TED spread بمقدار 40 نقطة أساس خلال العام، علما أن هذا المؤشر يوضح الفرق بين معدلات الفائدة على القروض بين البنوك وسندات الخزانة الأميركية قصيرة الأجل، كما يعكس مستوى إجهاد سوق الائتمان. وقابل ذلك أيضا صعود سعر الفائدة المتبادل بين البنوك اللندنية (ليبور). ونتوقع أن يقوم بنك الاحتياطي الفدرالي برفع أسعار الفائدة هذا العام، مع العلم أن السوق شهد ارتفاعين للأسعار على الكميات الضئيلة من الأموال التي يتم تداولها دون تدخلات حكومية. وفي الفترة التي تعقب الانتخابات الأميركية، نرجح بنسبة 60 في المئة أن يقوم الاحتياطي الفدرالي برفع جديد للأسعار بمقدار 25 نقطة أساس في ديسمبر المقبل. وبالتوازي مع رغبة الاحتياطي الفدرالي برفع أسعار الفائدة خلال هذا العام، بدأت قائمة الخيارات المتاحة تنفد أمام نظرائه «البنك المركزي الأوروبي» و«بنك إنكلترا» و»بنك اليابان»، ما يؤكد انحسار الدعم المقدم للسوق عموما. ورأينا أخيرا أنه حتى صُناع السياسات أقروا، بشكل غير مباشر، بأن إجراءات التيسير الكمي والنوعي للسياسة النقدية لم تكن مجدية، بل أصبحت تغذي الفقاعات في قطاع الإسكان والأسواق عموما، الأمر الذي يعكس الحاجة الماسة لتدابير جديدة كليا. التدابير الجديدة ولكن، ما هي التدابير الجديدة؟ إن التدابير الجديدة هي نفسها المعتمدة سابقا، فالعالم ينشد حدوث توسع مالي ينقذ الحالة الاقتصادية على المستوى الدولي. وتمثل هذه التدابير نفس الإصلاحات التي اعتُمدت عام 2009 عندما انطلقت دورة الأعمال هذه غير المعتادة. لكن هناك تحذيرا لابد من الإشارة إليه في هذا السياق، إذ يبدو العجز المالي، الذي يؤرق بال السياسيين ومعظم الحكومات، مضبوطا حين يتعلق الأمر بحجم الإنفاق، ولاسيما في الاقتصادات الغربية الكبرى. ومع إقبال الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا على استحقاقات انتخابية خلال المرحلة المقبلة، فإننا لا نتوقع تكشّف أحداث رئيسة أثناء الانتخابات وفترة الـ 100 يوم التي تليها. ورغم أن الفترة المتبقية من عام 2016 ستشهد مناقشات مكثفة حول طريقة الحصول على حوافز مالية أكبر يوما ما، وسبل الاستثمار بشكل موسع في مشاريع البنية التحتية، لكن الأجندة السياسية ستفرض قيودا تحول دون اتخاذ إجراءات ناجعة، ما يعني إرجاء تنفيذ السياسات لغاية مثل هذا الوقت من العام المقبل. وينُظر فعلياً إلى 2017 كعام آخر من فرص النمو الضائعة، ولدينا انطباع بأن العام الجديد سيحمل في طياته ما يكفي من الارتباك والفوضى والتغييرات الهامشية، والتي ستبرهن على الحاجة للتغيير الذي كنا ننادي به لسنوات. من ناحية أخرى، قد ينجح المرشح الجمهوري دونالد ترامب أو يخسر في الانتخابات الأميركية، لكن من غير الممكن تجاهل دعم الناخبين والمناصرين له. وستكون المحصلة مواصلة انهيار العقد الاجتماعي والتأثيرات الخطيرة لذلك. ترامب وباعتقادي أن ترامب سيكون الرئيس المقبل للولايات المتحدة، ليس بسبب ما يمثله من سياسات ومواقف أو يدلي به من تصريحات، بل لكونه مناهضا للمؤسسات. فإذا وصل إلى سدة الرئاسة، فلن يكون ذلك بسبب شخصيته، إنما للتدني العميق في شعبية منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، التي تمثل نموذجا قديما من السياسات التي جعلت الكثير من الأميركيين أكثر فقرا. ولا ننسى أن العقد الاجتماعي مبني منذ عدة قرون على الثقة بتحقيق النفع لكل من الحاكم والمحكوم، وذلك ليس عبر اعتماد مجموعة من الحلول والتدابير المؤقتة. لكن هناك اليوم الكثير من الناس الذي خسروا - في ظل الحاكم - وظائفهم ودخلهم المتاح للإنفاق، بل وإيمانهم بالمستقبل. وأي شخص يتسم بمناهضته للمؤسسات ويترشح لمنصب في أي مكان حول العالم سيكون النصر حليفه لا محالة. ولا يُعزى ذلك إلى الجدارة أو الأفكار، بل لأن العالم ضاق ذرعا بالسياسات القديمة. انعدام المساواة ونؤكد أن اعتماد نفس تلك الأساليب سيعزز انعدام المساواة أكثر من أي وقت مضى، وخفض الإنتاجية، وتسيير معدلات الفائدة والتضخم، إلى جانب تسجيل أدنى التقلبات على الإطلاق، لكن مع الشعور بأقصى درجات الرضى عن النفس. أعتقد أن الربع الأخير من العام سيحمل أولى بوادر التغيير في العملية السياسية، وبالتالي سنشهد ارتفاعا في حجم التقلبات بالأسواق. وفي بداية الأمر، سيكون السوق مصدوما لاكتشاف أن محافظه الاستثمارية أصبحت أكثر ارتباطا فيما بينها، وسرعان ما سيدرك بأن التركيز على السندات أو الذهب لم يعد مجدياً. ونضيف تحذيرا أخيرا في هذا السياق حول الارتباط الوثيق بين الأصول بنسبة مرتفعة بلغت أكثر من 60 في المئة، ما يقلص فرص التحوط، لأن جميع الأصول تسير بنفس الاتجاه. وبعبارة أخرى، لقد قمنا بالدوران ضمن حلقة مفرغة دون التحرك نحو أي نقطة جديدة طوال الأعوام الثمانية الماضية. وأفضى ذلك إلى مزيد من الإجهاد والدوران على أوسع نطاق، ولا أحد يريد العيش في نفس الحلقة المفرغة مجددا. وعلى مر السنين، عادة ما كانت جميع التغييرات الكبرى تنشأ نتيجة الأخطاء السياسية. ورغم أن فوز ترامب في الانتخابات سيحمل مخاطر كبيرة، فإنه قد يرسي فوضى بناءة يحتاجها العالم بالفعل. وأعتقد أننا مقبلون على مرحلة عصيبة تستدعي التحصن بشكل جيد وربط الأحزمة. لكن هذه المرحلة ستساهم في إزالة كثير من الافتراضات الزائفة التي لطالما ارتكز عليها السوق.
مشاركة :