التاريخ بين النقد العلمي وإشكاليات الصراع

  • 10/6/2016
  • 00:00
  • 26
  • 0
  • 0
news-picture

لا يقرأ العربي تاريخه بعقله، ولا يشتبك معه في إطار المُحدّدات النهائية للهويات الكبرى؛ كما تفعل الحضارات المعاصرة ذات النفس التقدمي، وإنما يعيش تاريخه بكل وجدانه، يعيش تاريخه البعيد الذي تطاولت عليه القرون، وكأنه وقائع طازجة قد حدثت بالأمس القريب. والأخطر من ذلك – وهو نتاج طبيعي للعيش في التاريخ - أنه يبني على ذلك التاريخ البعيد، ذلك التاريخ الميت، عالمَه المعاصر، عالمه الحيّ، بكل ما فيه من تحزّبات فكرية، وتحيزات وجدانية، دونما رؤية نقدية تجعل من التاريخ مادة للاشتغال الفكري، بل والوجداني، أي تجعل من التاريخ موضوعا مَحكوما قابلا للاستخدام، لا سلطة معنوية فاعلة مهيمنة، تمارس على الواقع أقصى درجات الاستبداد. يعيش العربي المعاصر واقعه من خلال تاريخه. يُخضع الواقعَ لشرط التاريخ، وليس العكس؛ كما هو الوضع الطبيعي. معظم ما في واقعه من مآس وصراعات ومواجهات وتجاذبات عقائدية تجد في التاريخ مرآتها، ومن ثم تجد مشروعيتها التي تمنحها القدرة على الاستمرار. نقد التاريخ هو جزء من مواجهة الذات في أعمق أبعادها حميمية، وهذا عند كل الجماعات الهوياتية صعب، ولكنه عند الأمة التي يتوهج وجدانها بتاريخها أصعب. لهذا، من الطبيعي أن يتهرب الجميع في المجتمعات التقليدية التي تُصَنّم تاريخها من هذا النقد بعلل شتى ولهذا، فإن التصورات العقائدية الراسخة التي تحكم نظام الوعي العام في العالم العربي هي من نتاج ذلك التاريخ، هي من إفرازات الصورة المتوهمة عن الأسلاف. هذه هي حقيقة واقعها، ولكن، عندما ينشأ الإنسان منغمسا بها كحقائق مطلقة اختصته بها السماء من بين جميع الناس، فإنه يتعذر عليه رؤيتها في مدى تشكلها البشري/الطبيعي. العالم العربي يمزقه التاريخ بأكثر مما يمزقه الواقع المُمَزَّق والمُمَزِّق. يدخل شيطان التاريخ حتى بين أبناء الوطن الواحد، فما بالك به بين أبناء القومية العامة. يمزق هؤلاء وهؤلاء شر ممزق؛ فيجعلهم نهباً للانقسامات الاستقطابية الدينية والمذهبية التي يقف على سلم هرمها تُجّار الأديان والمذاهب. في لبنان، كما في سورية ومصر والسودان والأردن، يعيش المسلمون والمسيحيون حالة حرب باردة أو ساخنة، ضمنية أو صريحة، وإن لم يتفجر الصراع اليوم على صورة حرب معلنة، فهو قابل للانفجار في أية لحظة يتخللها خطأ عفوي أو مقصود من هذا الطرف أو ذاك. وإذا كانت هذه هي الحال على مستوى الأديان، فهي أشد وأخطر وأوسع على مستوى المذاهب والطوائف داخل كل دين. اليوم، نجد السنة والشيعة في العراق يذبح بعضهم بعضا صراحة، بعدما ذبح بعضهم بعضا على مستوى التكفير المستورد، أو التكفير المطمور الذي كشف عنه التفكير المستورد. وكما في العراق، نجد الصورة – بفروقات غير حاسمة – في سورية ولبنان. وإذا كانت هذه صراعات طائفية ساخنة، فإن الصراعات الطائفية الباردة/الكامنة لا تعفي الطوائف في الخليج ولا في بقية العالم العربي. عندما يبحث المهتمون عن مصادر هذه العقائد/التصورات الصراعية الاحترابية، يجدونها في التراث/التاريخ، تحرسها عشرات الألوف من الكتب وعشرات الألوف من المنابر والمدارس. مسؤولية التاريخ أصبحت حقيقة يعرفها الجميع. ولكن، كيف يكون الخلاص منها؟. هل يمكن نفي التاريخ من الواقع بضربة حاسمة؟، هل يمكن القفز عليه بخطوة مخادعة؟، والأهم، هل يمكن القفز عليه دونما مساس بالعقائد التي صنعها، والتي أصبحت – من بعد ذلك – تحدد طبيعة رؤيتنا للتاريخ ذاته؛ فتصنع – بدورتها الجدلية - التاريخَ؟. وإذا قررنا القفز والتجاوز، فإلى أين؟ أي: إلى واقع من صُنع من؟...إلخ من الأسئلة الشائكة في هذا المضمار الإشكالي. الطيبون - أو المُتَطايبُون – يُواجهون هذه المشكلة المعقدة بـحَلٍّ طيّب أيضا!. يقولون: لنترك الماضي للماضي، لنبدأ من هنا، من هذا العصر الذي نعيش فيه، لا يجوز أن ننبش وقائع الماضي؛ لأن ذلك سيثير الضغائن...إلخ. طبعا، يقولون هذا؛ وكـأنه ممكن، يقولون هذا؛ وكأننا لسنا أمة غارقة في التاريخ إلى مفرق رأسها، يقولون هذا؛ وكأن عُقد الحاضر التي تتلبس الوعي العربي المعاصر ليست من مكبوتات التاريخ. أصحاب هذا الحل الطيب يريدون تَجنّب فتح الملفات التاريخية، يريدون علاج المرض الذي يحتاج لعمليات جراحية مؤلمة بتناسي تاريخ المرض، وبتجاهل مضاعفاته التي تتطور من خلال دينامية التاريخ الصامتة التي تشتغل في عالم الوعي إن لم تشتغل في عالم الواقع. الوعي العربي المعاصر تتلبسه كلُّ عُقَد التاريخ، تاريخنا القريب، وأيضا تاريخنا البعيد المتمدد في الأعماق. الوعي العربي يعاني من تلك العُقَد التاريخية الغائرة التي أدخلته في حالة سيكولوجية مزمنة مستعصية، تكاد تقف به على حافة الجنون، ثم يأتي من يقول له: لديّ شفاؤك، لا تقلق، انْسَ الماضي، وابدأ الحياة. تخيل أن مريضا نفسيا تتدهور حالته من سيئ إلى أسوأ، ثم تجد طبيبه يقول له – بكل بساطة، ودون أن يبحث في تاريخه المرضي الذي أوصله إلى وضعيته الراهنة-: انس الماضي، وابدأ حياتك من الآن. مثلما أن الطبيب النفسي يحتاج إلى البحث في تاريخ المريض وتحليل عقده التي قد تمتد جذورها إلى مراحل الطفولة الأولى؛ ليستطيع تحريره منها، ومن ثم شفاءه، فإن الأمة العربية ذات الأمراض العصابية المستعصية، الأمة المصابة بوعيها، تحتاج إلى ترسانة من الدارسين متنوعي الاختصاصات؛ كي يحللوا لها عقدها المتراكمة والمتشابكة. دونما اشتباك معرفي/نقدي مع التاريخ بكل وقائعه، وبكل ما أفرزته تلك الوقائع من تصورات وعقائد وأفكار، لا يمكن الانفكاك من التاريخ. لا يمكن الشفاء من التاريخ؛ إلا بتحليل عُقد التاريخ. يحاول كثيرون تجنب نقد التاريخ وفحص وقائعه بموضوعية صارمة؛ لأن نقد الإنسان لتاريخه مؤلم أشد ما يكون الألم. ليس من السهل أن يمرر الإنسان مشرطه المعرفي التشريحي الحاد على جسده التاريخي. نقد التاريخ هو جزء من مواجهة الذات في أعمق أبعادها حميمية، وهذا عند كل الجماعات الهوياتية صعب، ولكنه عند الأمة التي يتوهج وجدانها بتاريخها أصعب. لهذا، من الطبيعي أن يتهرب الجميع في المجتمعات التقليدية التي تُصَنّم تاريخها من هذا النقد بعلل شتى؛ حتى إنها لتتوسل الدين والعلم للإفلات من استحقاقات هذا الاستشفاء بالنقد الأليم. عندما تتجرأ، فتبدأ بفحص وقائع التاريخ في متنها المقدس؛ يتبرع أصحاب الحل الطيّب بتذكيرك بقوله تعالى (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون). وهم إذ يذكرونك بهذه الآية يُحرّفونها عن مواضعها. الآية تتحدث عن تناسل المسؤولية في الأعقاب، عن انتقال الذنب عبر الأجيال، عن مسؤولية المعاصرين عن خيارات السابقين وأفعالهم، الآية تتحدث عن الحساب الأخروي (بدليل: لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم)، وليس عن تجاهل التاريخ، بدليل أن هذه الآية وردت بعد مُعالجة نقدية لوقائع تاريخية، وبدليل أن القرآن ذاته اشتبك مع وقائع التاريخ نقدا وتصويبا،. وأكثر من ذلك، لم يكتفِ القرآن بذكر الوقائع إجمالا، لم يقل (تلك أمة قد خلت)، ثم يضرب صفحا عن وقائع التاريخ، بل على العكس، فصّل فيها، وكرر التفصيل، واتخذ مواقف واضحة من أحداثها، هي في النهاية عرض وتحليل. القرآن عرض/حلل في بعض المواطن، ولكنه في بعضها الآخر لم يعرض/لم يحلل: (منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك). الوقائع والأحداث التاريخية التي كانت نتائجها فاعلة في الزمن النبوي، لم يتجاهلها القرآن؛ لأن حضورها يستوجب الاشتباك مع جذورها التاريخية لتصحيحها، ومن ثم تصحيح الواقع. بينما الأحداث الغائبة عن مسارات الوعي، لم يعرض لها، لم يستحضرها قسرا من أعماق التاريخ؛ لأنها لم تعد تسهم في تشكيل الواقع. عندما عرض القرآن للمسيحية التي كانت منتشرة في زمن النبوة، بل وكانت قوة تتمدد بحجم اتساع الإمبراطورية الرومانية، لم يذكر المسيح عرضا، لم يقل: ذلك ماضٍ لا يجوز أن نخوض فيه، لم يقل: لا بد أن نبدأ من اللحظة الراهنة. لم يفعل القرآن ذلك؛ لأنه ليس ممكنا. لقد كانت هناك قضية ولادة المسيح، وقضية نهاية المسيح، وهما تقعان على خط التماس في السياق العقدي لكلا الديانتين. القرآن اشتبك محاججا ومخاصما ومفصلا وناقدا في هاتين القضيتين، وفي أكثر من موضع؛ لأن الواقع آنذاك كان يتحدد من خلال إعادة تفسير التاريخ. لم يفعل القرآن ذلك إلا لأنه لا يمكن ترتيب أوراق الحاضر من دون ترتيب أوضاع التاريخ. الذين يريدون احتكار التاريخ لهم، يريدون منك ترك الماضي في حاله، وهم لا يتركونه، يريدون كتابة التاريخ بصبغة تقديسية تعكس وجهة نظرهم الخاصة للتاريخ وللواقع، ولا يريدون منك كتابته بصيغة نقدية تحليلية، تفك الواقع من أسر التاريخ. الطيبون منهم يريدون خلق حالة تسامح وتعايش انطلاقا من لحظة عابرة؛ بينما آلاف العقائد المتوهمة ذات الأبعاد الاحترابية تتسامق نموا كل يوم في تربة التاريخ الخصبة. مَصنع التاريخ يشتغل بكامل طاقته؛ لإنتاج هذه العقائد العدوانية الاحترابية المدمرة، وهؤلاء يقولون: دع التاريخ، ولا تغرق في صراعات الماضي. يقول بعض الطيبين: ليس التراث/التاريخ هو السبب فيما نراه من صراع واحتراب ديني وطائفي. ثم يبحثون عن أسباب أخرى في الداخل أو الخارج. ولتأكيد رؤيتهم، يذكرون لك الحالة العراقية كمثال، وكيف أن السنة والشيعة مثلا، كانوا متآلفين متسامحين إلى درجة المصاهرة البَيْنية، فهناك مَنْ أعمامه شيعة، وأخواله سنة، أو العكس، رغم وجود التراث ورغم حضور التاريخ. والمعنى، أن التراث/التاريخ لو كان سببا رئيسيا في الصراع وتأجج العداء؛ لما كان ثمة تسامح في أي فترة من تاريخ العراق؛ لأنه كان موجودا على الدوام. الحقيقة أن هذه مغالطة، ففي الزمن الذي كانت هذه الحالة التآلفية سائدة، لم يكن عموم الناس متدينين بتراثهم العقائدي إلى هذه الدرجة التي نراها اليوم بعد صعود الأصوليات. قبل خمسة وستة عقود، لم يكن السني ولا الشيعي يدرك أن تراثه العقائدي يوجب عليه تكفير الطرف الآخر؛ كي تستقيم عقيدته (كيف سيتزوج بعضهم من بعض، لو كانوا متدينين بتراثهم، بحيث يعتقد بعضهم كفر بعض!). لقد عزّز التسامح أن معلومات كل طرف عن تراثه، عن عقائده الصلبة، لم تكن وافية لتشييد المعمار التكفيري، كانت علاقة العراقي بتراثه الديني سطحية، لم تكن تفاصيل المفاصلة العقائدية حاضرة في مجتمع تتجاذبه التيارات العلمانية، وتستهويه موجة التحديث الشامل. الانفصال عن ذلك التراث في تلك المرحلة، هو الذي أمَدّ العراقيين بتلك الروح التسامحية، وليس تسامح التراث الذي لم يعرف التسامح من ألف عام. ma573573@hotmail.com

مشاركة :