التاريخ هو تحليل للأحداث وفهمها عن طريق منهج؛ يصف ويسجل ما مضى من الوقائع، ويحللها ويفسرها على أسس علمية صارمة، للوصول إلى حقائق؛ تساعد على فهم الماضي والحاضر والتنبؤ بالمستقبل، وقد يواجه الباحث تعقيدات تحول دون تواصل بحثي عن حقيقة ما حصل في أحداث التاريخ، لكن ذلك لا يحول دون البحث والتحليل، فما زالت الحقائق موجودة، ويمكن الاستدلال عليها بتتبع آثارها، حتى لو غادرت أرواح أصحابها الأرض. تحمل الشهادة المتواترة المتسقة مع تفسير الدوافع والنتائج والآثار، بصمات الأدلة والتحقق، وكلها كفيلة باستنطاق الحقيقة، التي لا تقفل أي ملف من ملفاتها بانتظار جزئيات قد تظهر لاحقاً! ولهذا لا يعتبر التاريخ مقدساً أي قطعي، ولا يسلم به إلا إذا وافق في أخباره سياق آيات القرآن عن بداية الحياة وآخر الزمان، في الأسباب والنتائج والمآلات والأحكام، ولهذا إذا لم يخضع قلم كتابة السرد التاريخي؛ لضابط المقاربة والمقارنة مع اتجاه القصص القرآني، وإلى معايير التقييم في صحة الرواية مثل الجرح والتعديل، فإن السرد التاريخي لا يكون موضوعياً وقطعياً. إن معظم المتيسر من التاريخ المكتوب والمتداول، هو تاريخ تسجيلي، أي يسجل الحادثة كما هي بتواتر منقطع؛ ومن دون تحليل أو تفسير أو تقييم وتمحيص، وفي بعضه ليس نزيهاً في تدوين الأحداث لأنه تاريخ كتب بقلم المنتصر ورؤيته؛ وقد يكون فيه جزء من الحقيقة التي تتسق مع مضامين خطاب المنتصر لينسب كل ما هو إيجابي ترويجاً وتمّجيداً لنفسه، ولانتصاراته وإبرازاً لإنجازاته، كما فيه تعتيم على أجزاء من الحقيقة، لينسب كل ما هو سلبي لغيره تقليلاً من قيمة خصمه، وكأن التاريخ المكتوب بقلم المنتصر إنما هو الوجه الآخر لحقيقة الفضل ما شهدت به الأعداء! أغلب المؤرخين حينما يكتب، فإنه يكتب لأغراض عرقية أو طائفية أو سياسية أو أيديولوجية، ما يجعله يسكت عن النقائص والجرائم والسلبيات، ويمجد من في السلطة، ودوافعه لذلك، أما تعزيز ما يكتبه من تاريخ للترويج أو الإساءة؛ لغرض من الأغراض! ومثل هذه الإشكالية تبرز بشكل كبير في كتابة تاريخ العرب، فمن كتب التاريخ الأموي هم العباسيون، ومن كتب تاريخ الخلافة العباسية هم البويهيون والفاطميون وكذلك العثمانيون، ومن كتب التاريخ العثماني هو جماعة «تركيا الفتاة»، فالكل ينسب السلبيات لغيره والإيجابيات لنفسه، وهكذا.. التوصل لحقيقة إشكالية المنتصر والمهزوم كطرفي معادلة الصراع في أحداث التاريخ الذي يتمحور حولها السرد التاريخي في سياقه، يتطلب تفكيك طرفي المعادلة كلٍ على حدة ثم إعادة تركيبها باستقراء منهجي وتحليل الوقائع بعلاقة سببية موضوعية، مع حالة حسم الصراع ومعالمه، ثم نتائجه وآثاره، أما عكس ذلك أي البدء بتحليل المحصلة ومن خلالها يجري النفاذ لطرفي المعادلة، فهو استقراء ارتدادي لا تدخل في حسابه موضوعية المعرفة للمعرفة، وإنما المعرفة الانتقائية أو التسطيحية التي تصل في حالات تطرفها إلى منحدرات برغماتية، تنفصل تماماً عن جنس العلم والتعلم إلى جنس السياسة والتسيس. حجاج بوخضور
مشاركة :