الرأي العام في الشرق الأوسط نهاية الحرب العالمية الأولى

  • 10/6/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، اجتمع الحلفاء المنتصرون في فرساي سنة ١٩١٩ للاتفاق على شروط السلام وتقاسم المغانم. بالنسبة إلى الشرق الأدنى، كانت بريطانيا وفرنسا تستعدان لتقاسم الولايات العربية في السلطنة العثمانية وفق اتفاقية سايكس - بيكو الشهيرة التي وقّعت عام ١٩١٦. ولكن الولايات المتحدة الأميركية، القوة الكبيرة الجديدة التي لعبت دوراً أساسياً في انتصار الحلفاء، كان لها رأي آخر. لم تكن أميركا تُسيطر على إمبراطورية واسعة كبريطانيا وفرنسا، ولم تكن طرفاً في اتفاقية سايكس- بيكو بل كان رئيسها ودرو ولسن من أشد المؤمنين بفكرة حق الشعوب في تقرير مصيرها. لم ينجح ولسن في إقناع فرنسا وبريطانيا بضرورة تطبيق فكرته هذه على الشعوب العربية التي كانت خاضعة للاستــــعمـار العـــثمانـــي وإرسال بعثة للوقوف على رأي هذه الشعوب في ما يتعلق بتقرير مصيرها. في النهاية، بقي ولسن على موقفه وأرسل لجنة كينغ - كراين للقيام بهذه المهمة. كتاب أندرو باتريك «المبـــادرة المنــسيــة لأميــركا في الشرق الأوسط» (منـــشورات I. B. Tauris)، مـــــــن الأهمية بمكان، إذ إن لجنة كينغ- كراين أرسلت إلى بلادنا في فترة تاريخية مفصلية بين حكم عثماني دام أكثر من 400 سنة ومستقبل سياسي كان وقتها مجهولاً ورهـنــــاً بأطمــاع مختلف القوى الأجنبية ومنها الصهيونية العالمية. أضف إلى ذلك أنها كانت المرة الأولى في تاريخ المنطقة التي يُسأل فيها الشعبُ عن رأيه في هوية حكامه الجدد. توجّهت اللجنة برئاسة هنري كينغ وشارلز كراين وسبعة أشخاص آخرين الى الشرق الأوسط ودامت إقامتهم شهراً ونصف الشهر تقريباً، من ١٠ حزيران (يونيو) الى ٢٣ تموز (يوليو) ١٩١٩. ابتدأت الزيارة في يافا وانتهت في اسطنبول، مع إقامة طويلة في أربع مدن أخرى هي القدس ودمشق وبيروت وحلب، مع محطات ثانوية أخرى. يقول الكاتب أن اللجنة حاولت أن تجتمع بأكبر عدد ممكن من قادة الرأي الذين يمثلون مختلف الاتجاهات والآراء، ومع مختلف الوفود الذين كانوا ينتظرون قدومها بفارغ الصبر. كان معظم الوفود ذا طابع طائفي أو حزبي أو وطني، واجتمعت اللجنة أيضاً بمجموعات أخرى كمجالس بلدية وجمعيات نسائية ونقابات مهنية وعائلات بارزة. ويضيف الكاتب أن التصنيف الوطني والطائفي للأفراد والمجموعات التي اعتمدته اللجنة كان كالآتي: سوري، عربي، مسلم، مسيحي، درزي، ويهودي. يقول الكاتب أن الأكثرية الساحقة من الوفود التي اجتمعت بها اللجنة طلبت أن تبقى سورية الكبرى موحّدة وأن تحصل على الاستقلال الكامل (٧٣.٥ في المئة) وأن يكون نظام الحكم ملكياً ديموقراطياً وأن يصبح الأمير فيصل ملك سورية الكبرى (٥٩ في المئة). رفضت هذه الأكثرية الانتداب ولكنها أبدت استعداداً لقبول مساعدات فنية واقتصادية من الولايات المتحدة أو بريطانيا. ٦٠ في المئة من الوفود أدلت بآراء معادية لفرنسا، و٧٢ في المئة رفضت المشروع الصهيوني بشدة. أما في لبنان فكانت الآراء منقسمة بين ٤٣ في المئة يطالبون باستقلال لبنان و٤٢ في المئة يطالبون بالانضمام الى سورية الكبرى. ٥٠ في المئة من اللبنانيين طالبوا بانتداب فرنسي بينما اعترض 25.5 في المئة على ذلك. الأكثرية الساحقة من الموارنة والروم الكاثوليك تمنت الانتداب الفرنسي، بينما طالبت وفود الطوائف الإسلامية باستقلال سورية الكبرى وبفيصل ملكاً. أما الوفود الأرثوذكسية فكانت منقسمة بين محبذي الانتداب الفرنسي والذين يفضلون الانتداب البريطاني أو الأميريكي. ماذا عن اليهود؟ يكرّس الكاتب صفحات عدة لآراء المستوطنين اليهود الذين أتوا الى فلسطين من الغرب، واليهود الشرقيين الذين سكنوا في بلادنا قبل بدء الهجرة الصهيونية بكثير. فقد اجتمعت اللجنة الى وفود صهيونية عدة من اليهود الذين استوطنوا حديثاً في فلسطين، وأصر جميع هذه الوفود عَلى حق اليهود بالاستيطان في فلسطين وإقامة وطن قومي فيها استناداً الى التاريخ القديم والكتب المقدسة، مضيفين أن وجود الصهاينة سيساهم في نشر الحضارة في فلسطين وفي تقدم شعبها، ولذلك لا مبرر للمعارضة الشديدة التي يبديها الفلسطينيون والعرب لهجرة الصهاينة الى فلسطين، خصوصاً أن البلد كبير بما فيه الكفاية لاستيعاب الشعبين. وطالب جميع هذه الوفود بالانتداب البريطاني. أما بالنسبة إلى اليهود الشرقيين فقد اجتمعت اللجنة الى وفود منهم في دمشق وحلب وبيروت وصيدا وغيرها، وصرح جميعهم بأنهم يدعمون الفكرة الصهيونية. تجدر الإشارة هنا الى أن هذا الإجماع لم يكن ليحصل لولا الحملة المركزة التي قادتها المنظمات الصهيونية بواسطة شخص يدعى أبراهام المالح الذي استطاع أن يتخطى التحفظات التي أبداها البعض تجاه الصهاينة. ويوضح الكاتب في هذا السياق أن أكثر أعضاء لجنة كينغ - كراين كانوا متعاطفين مع الأفكار الصهيونية قبل قدومهم إلى الشرق الأوسط، ولكن الوقائع التي لمسوها في فلسطين جعلتهم يغيّرون رأيهم ويقتنعون بأن هدف الصهاينة كان السيطرة الكاملة على فلسطين على رغم ادعائهم عكس ذلك، إضافة الى أن الصهيونية تتنافى مع مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها. بعد الجهد المكثف الذي بذلته اللجنة في فلسطين ولبنان وسورية، انتقلت الى اسطنبول لمتابعة عملها والاطلاع على آراء الأتراك والأرمن والعراقيين. ولكن الكاتب يشير إلى أن عدد الوفود التي قابلتها اللجنة في اسطنبول كان ضئيلا جداً بالنسبة إلى الوفود التي قابلتها في سورية الكبرى، وكانت نسبة تمثيلها للسكان أقل بكثير. وكانت اللجنة قبل قدومها الى الشرق الأوسط اطلعت على المجازر التي تعرّض لها الشعب الأرمني واهتمّت جداً بهذا الموضوع. تجب الإشارة هنا الى أن لجنة كينغ - كراين كانت تضم، إضافة إليهما، ٧ أشخاص آخرين بينهم جدي الدكتور سامي حداد، بصفة طبيب ومترجم. وكان جدي المتخرج من كلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت قد انضم الى اللجنة بناء على اقتراح رئيس الجامعة وكان الوحيد الذي يتقن اللغة العربية. يقول الكاتب أن غالبية الوثائق المتعلقة بمقابلات اللجنة مع مختلف الأفرقاء كانت بالعــربــيـــة والإنكليزية والفرنسية وأنه اعتمد كلياً على ترجمة جدي الممتازة في ما يتعلق بالنصوص العربية. يمكن اختصار توصيات اللجنة النهائية كالآتي: تكون الولايات المتحدة الدولة المنتدبة على دولة سورية الكبرى الموحدة، وإذا لم تقبل أن تلعب هذا الدور فيكون من نصيب بريطانيا. يمنح لبنان درجة عالية من الاستقلالية ضمن سورية الكبرى ويصبح الأمير فيصل ملكاً على هذه الدولة بموجب دستور ديموقراطي. لا يجب أن تعطى فرنسا انتداباً في المنطقة إلا إذا أفضت المفاوضات السياسية إلى حل وسط يقضي بأن تكون فرنسا الدولة المنتدبة على لبنان. يجب تحجيم البرنامج الصهيوني بصورة كبيرة بسبب المعارضة القوية التي يتعرض لها. تعطى الولايات المتحدة انتداباً على مقاطعة اسطنبول التي تكون مستقلة وخاضعة للقانون الدولي، وتعطى أيضاً انتداباً على دولة تركية في الأناضول ودولة أرمنية يكون لها منفذ على البحر الأسود. أما بالنسبة الى العراق فيجب أن يبقى موحداً ويضم على الأقل ولايات البصرة وبغداد والموصل مع إمكانية إضافة مناطق شمال الموصل إليه. يكون العراق تحت الانتداب البريطاني ويتمتع بنظام ملكي دستوري ويعين أحد أبناء الشريف حسين ملكاً عليه. تأخر نشر تقرير كينغ - كراين إلى سنة ١٩٢٢، أي بعد وفاة الرئيس ولسن، وكما نعلم لم تطبّق توصياته لأن الدولتين العظميين، فرنسا وبريطانيا، مضتا في تطبيق معاهدة سايكس - بيكو، بينما لم يعد للولايات المتحدة أي نفوذ عسكري أو ديبلوماسي يذكر في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد أن رفض الكونغرس المصادقة على معاهدة فرساي والانضمام إلى عصبة الأمم. الكتاب الذي نحن بصدده مميز للغاية لأن الكاتب أندرو باتريك قام ببحث معمّق حول الظروف التي أدت الى نشوء لجنة كينغ- كراين والأسس التي اعتمدتها في عملها والخلافات بين أعضائها وكيفية وصولها الى التوصيات النهائية، لكنه ليس مفصلاً بما فيه الكفاية في ما بتعلق بمختلف الآراء التي سمعها أعضاء اللجنة، وبالأخص آراء الدروز والعلويين الذين لا يأتي على ذكرها إطلاقاً، علماً أن اللجنة قابلت وفوداً منهم وتوجد وثائق عن هذه المقابلات.     * وزير الاقتصاد اللبناني سابقاً

مشاركة :