منذ مدة ليست بالقصيرة وأنا أتتبع استخدام الرموز (شخصيات، أماكن، أحداث..) في خطابنا الإسلامي المعاصر، وتعدى الأمر إلى الفن الذي يحلو للبعض أن يسميه "إسلامياً"، فوجدته يأخذ منحى يكاد يكون واحداً، إذ إننا دائماً ما نستدعي الشخصيات التي اقترنت في ذاكرتنا بالانتصارات في الحروب والفتوحات الإسلامية في زمن "الدول الإمبراطورية"، وكذلك الأحداث التي نستدعيها للتعريف بأمتنا وتاريخها هو استدعاء من "نفس النمط"، حيث تكون للمعارك والحروب النصيب الأكبر من ذلك إذا ما كان كل الاستدعاء التاريخي هو عبارة عن حروب ومعارك وفتوحات، مما يوحي للإنسان المتتبع لخطابنا الإسلامي المعاصر وللفنون التي نتجت عنه أن الإسلام هو دين "سيف"، وليس" للمنطق العقلي" فيه نصيب، وليس للعلم والعلماء دور يذكر، وأنه -أي الإسلام - إنما انتشر بالقوة ولم يقدم للبشرية أي منجز دعم حياتها وساهم في رقي الحضارة الإنسانية بشكل عام. لذا كان لا بد من التوقف عند هذه النقطة ودراسة تأثيراتها في "العقل الجمعي والتربوي" للأمة، أفراداً ومؤسسات ومنتجاً تربوياً أو فقهياً أو أيديولوجياً، حيث بقيت العقلية "المأزومة" التي ترافق الحروب هي الحاضرة في ذهنية العقل الجمعي للأمة ومثقفيها وكتابها، بل أصبحت جزءاً من ذاتها، مما أثر على منتجها الفكري، سواء على المستوى الفقهي أو حتى الأيديولوجي حيث بقينا نتشبث بـ"أشكال" زمانية ومكانية للحكم "الخلافة شكلاً" أو الفقه القانوني "مضموناً" أو الأيديولوجيا "تنظيراً"، وبقينا نَحِنُّ إلى تلك (الحروب "الفتوحات") وإلى "السبي والحاليات" وإلى الحاكم الذي يحكم باسم "الله"، واستنبطنا فقهاً مخالفاً للمقاصد القرآنية "الحرية / العدل/ التنمية..."، وكان الأجدر بنا أن نستخرج أو نستنبط أسلوباً أكثر تفاعلاً مع المقاصد في "تحرير الإنسان" من أي نوع من أنواع العبودية؛ كي يستطيع ذلك الإنسان أن يقوم "بوظيفته" التي خلق من أجلها. كانت هذه العقلية المأزومة هي نتيجة طبيعية لذلك الاستدعاء القاصر للرموز وحصرها فقط في جانب "العسكر"، وما نتج عنه من أشكال مقيدة بطبيعة زمانها ومكانها، سواء على مستوى الحكم أو الفكر، ثم نعود اليوم لنناقش لماذا ظهر التطرف في فكرنا المعاصر، ونبحث عن أسباب خارجية هي التي كانت سبباً في ذلك، وننسى أو نتناسى هذا الدور السلبي الذي يلعبه الاستدعاء الخاطئ للرموز وحصرها في زاوية "العسكر" فقط. ولذا علينا أن نعيد قراءة خطابنا والعمل على إنتاجه من جديد أو على الأقل "تريب أوراقه" وفقاً للمقاصد القرآنية، وأن نبتعد بعقليتنا عن "الأزمة" التي يخلقها فقه الحروب، سواء أكانت في الماضي "تراثاً" أو الحاضر "فتنة"، كي يكون استنباطنا للفقه المعاصر "حكماً وتشريعاً وتقنيناً" أكثر انسجاماً مع معطيات عصرنا، وكذلك يكون منتجنا الفكري الأيديولوجي هو منتج يراعي إنسانية الإنسان باعتباره "بنيان الله" تكريماً، وهذا بدوره سيؤثر على نمطية التربية وفلسفتها لدى الجيل القادم عله يتخلص من سبب مهم من أسباب الأزمة التي عاشها الجيل الحالي، ويتفرغ لحل مشكلات أكثر إلحاحاً وتأثيراً على مستقبل الأمة وأفرادها. وكي يكون مقالنا أكثر واقعية نقترح بعض الخطوات: 1 - استدعاء الرموز العلمية في المجالات كافة (فقه الشاطبي نموذجاً، طب الزهراوي، في الفيزياء ابن الهيثم، الفلك مريم الإسطرالابية، في الجغرافيا الإدريسي.. وغيرهم). 2 - تسليط الضوء على المدارس والجامعات والمكتبات والمؤسسات العلمية والثقافية التي أنشئت في تاريخنا الإسلامي (المستنصرية، بيت الحكمة، المدرسة النظامية). 3 - إعادة إنتاج أناشيد وأفلام تحكي قصة النهضة العلمية والثقافية التي أحدثها المسلمون على امتداد حضارتهم شرقاً وغرباً مكاناً وزماناً. 4 - إعادة نشر المخطوطات العلمية (المتعلقة بالعلوم التطبيقية والصرفة وعلم الاجتماع والتربية) والتي ما زالت حبيسة الرفوف. 5 - تركيز خطابنا الإسلامي (منبرياً، تأليفاً، أكاديمياً، بحثياً) على جانب العلوم الإنسانية (علم الاجتماع، علم النفس، فلسفة، علم الإدارة، علوم سياسية، قانون، إعلام..) والانطلاق بها إلى أفق بعيد عن الأزمة التي خلفها الاستدعاء القاصر. إذا استطعنا أن نتحرك بهذه الطريقة فربما سنجد أنفسنا قد قطعنا شوطا ًكبيراً في إعادة التوازن لشباب الأمة والاعتزاز بهويتهم التي باتوا على شفا فقدانها. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :