إنّ تقبيل اليد لم يرد فيه نص يُحرِّمه من كتاب الله أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولم يُنقل إلينا إجماع بتحريمه، والنهي عنه بلا دليل معتبر لا معنى له، أو حتى القول إن تركه أولى، وإنما هو رأي مجرَّد لا يقوم على دليل شرعي، والإفراط في النهي عن المباحات هو تمامًا مثل الإفراط في إباحة ما ثبت في الشرع تحريمه أو كراهته، فالعلم الشرعي يأبى ذلك، والاعتماد في التحريم أو الكراهة على الرأي المجرَّد دون دليل شرعي، واعتماداً فقط على أن نفس مَن يفتي بالتحريم لا تميل إليه، أو أن فيه ما يفضي إلى مفاسد حسب وجهة نظره، أو تقليداً لغيره، لا يُعطيه الحق في أن يفتي بتحريمه، ومن المسائل التي شاع النهي عنها دون دليل، تقبيل يد الأبوين وكبار السن من الأهل وذوي القرابة، والعلماء وذوي الفضل من الصالحين والعباد، ومحاسبة مَن يفعل ذلك، وكأن ما فعل من المُحرَّمات الكبائر، والاشتداد في النهي عنها غير مقبول بلا دليل شرعي على تحريمه، والناهون عنه يعلمون ألا دليل لهم على هذا النهي، وأن هذا الفعل فعله الصحابة والتابعون، وأقر بإباحته من سلف علماء المسلمين الكثرة البالغة، وقد ألف العلماء في إباحة تقبيل اليد وغيرها، فألف الشيخ الحافظ محمد بن إبراهيم الأصبهاني ابن المقرئ المتوفى سنة 381هـ جزءاً في الرخصة في تقبيل اليد ذكر فيه ثلاثين حديثاً، منها الصحيح، والحسن، والضعيف، في إباحة تقبيل يد العالم والعبد الصالح، وألف الإمام المحدث أحمد بن محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي كتابه: (القُبَل والمعانقة والمصافحة)، وأثبت فيه بالدليل إباحة ذلك، وللمحدث أبوالفضل عبدالله بن محمد بن صديق الغماري كتاباً في ذلك رداً على مَن يَنهَى عن ذلك أسماه: (إعلام النبيل بجواز التقبيل)، وقد ألف من المحدثين في إباحة التقبيل لليد، العالم المصري السلفي المعاصر كتاباً أسماه: (أحكام القُبَل والمعانقة والمصافحة والقيام)، وقد رأيت أن المذاهب الأربعة وردت الإباحة بتقبيل اليد وغيرها على لسان المنتسبين إليها كثيراً، فقد قال الفقيه الحنبلي محمد السفاريني في الآداب الكبرى له: (وتباح المعانقة وتقبيل الرأس واليد تديّناً وتكرّماً واحتراماً مع أمن الشهوة)، وقال الحافظ ابن الجوزي في مناقب أصحاب الحديث: (من التواضع تقبيل يده -يعني العالم- وقبّل سفيان بن عيينة والفضيل بن عياض أحدهما يد الحسين بن علي الجعفي والآخر رجله)، وقال أبوالمعالي في شرح الهداية: (أما تقبيل يد العالم والكريم لرفده فجائز، وأما أن يقبّل يده لغِنَاه فقد روى: (مَن تواضع لغني لغِنَاه فقد ذهب ثلث دينه)، وقال ابن عابدين من الأحناف على حاشيته على الدر المختار: (ولا بأس بتقبيل يد العالم والمتورع على سبيل التبرك)، وقال الإمام الطحاوي في حاشيته على مراقي الفلاح: (ومن غاية البيان عن الواقعات تقبيل يد العالم أو السلطان العادل جائز)، وقال الإمام مالك: (إن كانت قبلة الرجل على وجه التكبّر والتعظيم فمكروهة، وإن كانت على وجه القربة التي لدينه أو لعلمه أو لشرفه فإن ذلك جائز)، كما ذكره الحافظ بن حجر في شرحه لصحيح البخاري، ولذلك لم ير فقهاء المالكية بأسًا في ذلك، وقد قال العلامة السفاريني: (قال المروزي: سألت أبا عبدالله -يقصد الإمام أحمد بن حنبل- عن قُبلة اليد فقال: إن كان على طريق التدين فلا بأس، قبّل أبوعبيدة يد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وإن كان على طريق الدنيا فلا)، وقال الإمام محمد بن عبدالوهاب في رسالة كتبها إلى أحمد بن محمد بن سويلم، وثنيان بن سعود قال فيها: (وأما تقبيل اليد فلا يجوز إنكار مثله، وهي مسألة فيها اختلاف بين أهل العلم، وقد قبّل زيد بن ثابت يد ابن عباس وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا). فإثارة هذه المسألة الآن، وقد عُلِمَ الحكم فيها يقيناً منذ زمن طويل إنما هو إشغال للناس بما لا فائدة منه ديناً ودنيا، والتحريم شيء حذر الله منه إذا كان بلا دليل شرعي، عن الله أو عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو بإجماع من المسلمين علماؤهم وعامتهم، والأدلة على هذا التحذير متوافرة، هدانا الله لما يُحبه ويرضاه، وصرفنا عما لا فائدة لنا منه ديناً ودنيا، إنه سميع مجيب. alshareef_a2005@yahoo.com
مشاركة :