حينما كنت في زيارة لدبي مررت بصديقة تسكن أحد فنادقها، ونحن نهم خارجتين قالت لي بهدوء مفرط: هنا اغتيل المبحوح، وأشارت إلى الفندق، وفي لحظة تذكرت القصة التي تابعها العالم بأسره، وعليه سطع نجم قائد شرطة دبي الفريق ضاحي خلفان، حيث يذكر الجميع كيف اغتالت الموساد القيادي في حركة حماس محمود المبحوح في دبي، في مطلع يناير من عام 2010 عبر أشخاص يحملون جوازات سفر أوروبية. ما يهمني في الموضوع أنه قد أصبح للفندق سيرة مختلفة عن باقي فنادق دبي الشهيرة، فبات يذكر بقضية المبحوح، يرحمه الله، وهنا تساءلت: هل كان يأمل المبحوح بأن يعيش طويلاً وهو صاحب قضية، أم أنه كان يدرك أن حياته مختلفة عن الباقين، لذا فالحياة والموت يبدوان ككفتين متساويتين بذات المقدار؟ لا أعرف المبحوح ولم أسع يوماً لمعرفة سيرة حياته الشخصية، سواء أهدافه أو آماله السرية تجاه وطنه فلسطين، لكنني أعترف بأنني كنت مهتمة لأبعد مدى بمعرفة كافة تفاصيل اغتياله، وأذكر جيداً أني حزنت لمقتله، بل ربما طفرت دمعتين من روحي. فالإنسان يبقى مهماً بالنسبة لي، حتى لو لم تكن هناك علاقة شخصية بيني وبينه، فلا يهمني جنس هذا الشخص أو عرقه ومذهبه، لكن أيّ روح تهتك وتسحق أو يستباح دمها، أجدني أتفاعل مع قضية هذا الكائن المسحوق والمعدوم، فالله كرمنا بنعمة الحياة، ولا يحق لأحد أن يسلب رحيقها منا، مهما بلغت أسباب الاختلاف فيما بيننا ومهما امتدت، فللحياة شفرة سرية لا يبلغ حقيقتها إلا القليلون منا، ويؤسفني أن يموت هذا الكم الهائل من البشر دون أن يدركوا خبايا جمال الحياة، فما زالوا يعتقدون حتى الآن أنها مجرد معركة وجهاد ونصر عظيم فقط! وأنا المرأة المغرمة بالحياة، والحب، والعمل، والمجلات النسائية التافهة، وفطائر الزعتر، وأصابع الروج الأحمر، وصوت والدي وهو يقول لي "صباح الخير"، حينما أقرأ أو أشاهد قضية يتم فيها قتل أو إعدام بعض الأشخاص، تنساب حياتهم كلها أمامي أشبه بشريط فيلم، وأبدأ في التساؤل عن الأشياء التي خلفها الفقيد وتركها دون أن تكتمل، قصص الحب، حكايات الجيران المزعجة، الملابس الجديدة، البطاقات الائتمانية، الأسماء في ذاكرة الجوال، الكتب الملهمة، الطبق الذي لم ينته منه، الأفكار التي قرر مشاركتها مع الأصدقاء، الهدايا التي لم يشترها، بطاقات الشكر التي لم ترسل، النباتات التي تنتظر سقيا الماء، "اللمبة" الكهربائية التي تنتظر التغيير. أذكر في مراهقتي أنني قرأت مذكرات الفنان العظيم الراحل "أنتوني كوين"، وهو الذي قدّم شخصية المجاهد الليبي عمر المختار ببراعة واقتدار. كوين يمثل بالنسبة لي نموذجاً إنسانياً شديد الثراء، ولا يمكن الفصل بين عبقريته الفنية وتفوقه الإنساني، وربما هذا ما ساعده على تجسيد الشخصيات التي أداها على شاشة السينما بروعة واقتدار، فكل شخصية كانت تحمل بداخلها جزءاً خطيراً منه. في آخر جزء من مذكراته، ذكر متأثراً بإحساسه القريب من الموت فقال: "غداً سأموت، وثمة كتب ستكتب ولن أستطع قراءتها، وستقدم السينما أفلاماً جميلة ومذهلة ولكن للأسف لن أتمكن أيضاً من مشاهدتها والاستمتاع بها، وستخترع أشياء كثيرة وعديدة، ولن يحق لي أن أجربها، لأني حينها سأكون خارج الحياة، هذه هي خيبتي التي أتألم من أجلها، الأشياء التي ستأتي بعد موتي".. هذه الكلمات التي كتبها الفنان العظيم، حتى هذه اللحظة التي تطرق بها أصابع يدي "الكيبورد" ما زلت أتذكرها بل وأحفظها عن ظهر قلب. لذا فهؤلاء الراحلون رغماً عنهم، أو الذين ماتوا بطريقة فيها الكثير من البشاعة، أو حتى الذين انتهت حياتهم دون أن يكونوا مهيئين لمقابلة جلالة الموت، كما حدث مثلاً للرجل البريطاني الذي فقد حياته كما جاء عبر الصحف إثر لكمة على وجهه، لكمة من رجل أسود قال لصديقه إن هذا المكان مخصص للمشاة لا لسائقي الدراجات، فما كان من صديق الأسود إلا أن لكمه وفي ثوان سقط الضحية، ليفارق الحياة إثر ارتطام رأسه بناصية الشارع، وإصابته بنزيف، انتهت القصة، لكنها بدأت عندي، وبدأ الفيلم يعاود عرض مشاهده أمامي؛ شعوري العميق تجاه الإنسان، حياته، انتصاراته، خيباته، أهدافه، واجباته، يا إلهي.. الحياة جداً جميلة، ولكنّ الراحلين كان قد كتب لهم أن ينتهوا منها بشكل سريع وأحياناً موجع، دون أن يشاهدوا حفل الأوسكار لهذا العام، ويستمتعوا بمتعة تخيل أسماء الأبطال الفائزين والأفلام التي حققت انتصارات ساحقة، ودون أن يضحكوا على "الهاشتاقات" السخيفة التي تشتعل كل مرة عبر "تويتر". لا تزال الحياة جميلة، وعلينا أن نستمتع بها وأن نكون مشروع فرح دائم.
مشاركة :