شبلي شميل.. اهتمام مبكر بفلسفة العلم

  • 10/10/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

القاهرة: الخليج كان حاد الذهن سريع التصور، فيبادر إلى المجاهرة بما يعتقده صواباً، ولو خالف المألوف، تقرأ كتاباته فتظنه من غلاة الماديين، وهو في حقيقة الأمر من غلاة الروحانيين، حتى كاد يعتقد بالسعد والنحس، وحاول مرة أن يجد قانوناً للصدفة، ومع عزته على الظالمين إلا أنه كان أودع الناس مع البائسين والضعفاء، ولو تمكن من زيارة السوريين في مهاجرهم في أمريكا الشمالية والجنوبية وجنوب إفريقيا وأستراليا واليابان لاحتفلوا بأكبر فيلسوف أنجبه الشرق. هذا ما كتبه يعقوب صروف عن شبلي شميل الذي لم يكن عالماً، بل كان من فلاسفة العلم، لأنه تناول مذهب النشوء وترجم كتاباً منفصلاً فيه وهو شرح بخنر على مذهب دارون ثم توسع في هذا الموضوع وطبقه على كل ما في الكون حاسباً إياه وسيلة لغاية سامية، وهي إصلاح حال المجتمع الإنساني. وفي رأي جورجي زيدان فإن شبلي شميل يعد فيلسوفاً اجتماعياً كبيراً، لكنه يعول في الكثير من أحكامه على القواعد النظرية دون أن يلتفت إلى وجهها العملي فينتقد حالة من حالات الاجتماع، ويذهب إلى إصلاحها مذهباً قد يكون جميلاً بنفسه، لكنه لا ينطبق على الواقع، أي لا يتيسر إخراجه إلى حيز العمل. لقد عرفت مصر منذ فجر نهضتها الحديثة، قبيل القرن التاسع عشر وحتى معظم القرن العشرين، تراثاً غنياً من الفكر والثقافة الإنسانية الرفيعة المبنية على آداب البحث والحوار والنقد، مع الذات ومع الآخر، مع التراث والعصر، فعرف تراثها مختلف التيارات الفكرية والثقافية، من ليبرالية ومحافظة، من دينية مستنيرة وإنسانية، ومن دينية ودنيوية، ومن علمية تقدمية، عرفت مصر الحديثة ذلك كله واستوعبته، ولم ينف أحدها الآخر، أو يقصي أصحاب هذا التيار أو ذاك أو يكفرهم، وهضمت مختلف التيارات والرؤى، وتمثلتها في ثقافة تيارها الوطني العام، ومن ثم كانت النهضة والحداثة والاستنارة. وكان من الضروري بعدما عانت مصر في العقود الأخيرة من تاريخها، أن تستعيد دروس نهضتها، بنشر نصوص تراثها، لتصل حاضرها بماضيها، بغير قطيعة أو تجاهل، تستنبط من تراثها عناصر القوة والتجدد، وتصلها بمنجزات العصر، وفي هذا الصدد فقد نشرت الأعمال الكاملة لشبلي شميل مصحوبة بمقدمة توضح عندما نعيد نشر كتابات شبلي شميل التي وصفت بالجموح والجنوح، فإننا نستلهم قيمة حرية الفكر التي حرص عليها بناة النهضة العربية الإسلامية الحديثة، فمن العبث الآن القول إن إعادة نشر مثل هذه الآراء يسهم في تفشي آفة الإلحاد بين شبيبتنا أو يشككهم في أصول عقيدتهم، وذلك لأن جلَّ المعارف الإنسانية أصبحت متاحة على شبكة المعلومات الدولية. ويبدو جلياً في كتابات شبلي شميل ما يؤكد سلامة عقيدته وإشادته بالأصول الإسلامية، التي يعدها من أعظم المبادئ الصالحة للتطبيق في المدنية الحديثة، كما أنها لم تغضب المتدين المسيحي، لأنها لم تطعن في القيم الروحية التي وردت في إصحاحات الكتاب المقدس، بل انصب نقدها على المعارف الغيبية الخاصة بنشأة الإنسان، كما أن نقد شبلي شميل كان موجهاً لسلطة رجالات الكنيسة التي حالت بين العقل وحريته في البحث والدرس والاعتقاد والبوح. يتسم أسلوب شبلي شميل باتباعه المنحى الإنجليزي في السياق البنائي للمقال، من حيث قصر العبارات الموجهة رأساً إلى الفكرة المحورية، مع الزج بالمصطلحات الدقيقة لحصر المعاني وتحديد الدلالات، فإذا ما نظرنا إلى مقالاته فسوف نجدها لا تختلف في بنائها السردي عن الأسلوب السائد في هذه الحقبة، من حيث تعدد أغراض المقالة، مع الحفاظ على الفكرة الرئيسية التي يحددها العنوان واستخدام الحوار الذاتي أو مخاطبة الآخر، للانتقال من فكرة إلى أخرى، أضف إلى ذلك اتباع أسلوب الخطابة، من حيث التمهيد للفكرة في السطور الأولى للمقالة ووضع نهاية في خاتمتها، كما أنه انتحل أسلوب الحكي في السرد فنجده يخاطب القارئ ويذكره بأمر ما كان، ويناقشه فيما هو كائن، ويدعوه لاستشراف ما سوف يكون، أو يسأله التمهل حتى يتم فكرته، وقد أراد من ذلك استمالة المتلقي، وكسر حاجز الغربة بينه وبين الموضوع الذي يدعوه إلى قراءته، ومن يحلل البنية المعرفية لمقالات شبلي شميل سوف يدرك سعة معارفه وتنوع ثقافته، وتمكنه من المنحى السقراطي في التهكم والسخرية لتوليد أفكار قرائه، وحثهم على مشاركته التأمل والتفكير، وعرضه الرأي على صورة مقدمات مترابطة تفضي إلى نتائج معقولة، وقد أراد بذلك الابتعاد عن المنحى التلقيني، حتى لا ينفر القارئ من غرابة أفكاره، وتتشكل بنية مؤلفاته على تنوعها من نسقين متداخلين أولهما يمثل خطابه الحداثي وهو محاط بثلاث هالات ضبابية متعانقة، هي الاغتراب والغرابة والاستغراب، وثانيهما يمثل آليات مشروعه الحضاري وفلسفته في تحديث الفكر العربي، فقد جاء خطابه حداثياً منتصراً للفلسفة الوضعية والنظريات العلمية، وناقداً للغيبيات والثقافة الشرقية الدينية، الأمر الذي يعبر عن اغترابه في ثقافته المسيحية الشامية التي تعلي من شأن النصوص المقدسة، ملوحة بسيف الحرمان والقمع لكل من يخالف تعاليم الكنيسة، ذلك فضلاً عن الجمود والتخلف والجهل الذي ترتب على جمع الكنيسة بين السلطة الدينية والمدنية تجاه رعاياها، واضطهاد العثمانيين لمخالفيهم في العقيدة والمذهب، والنظر إلى المسيحيين على أنهم موالي لا ينعمون بحقوق المواطنة الكاملة، أضف إلى ذلك احتقار الأتراك للأغيار بحجة أن الجنس التتري أعلى الأجناس، أما العربي ففي رأيهم أجلاف، يجب تسييسهم بالقمع والعصا. يتمحور مضمون خطابه الداعي إلى تبني النظريات العلمية والفلسفات المادية في الاعتقاد والتفكير السلوكي، فقد واجه الرأي العام العربي جمهوره وخاصة هذه الآراء بالاستنكار والدهشة، لأنها غريبة على مجتمع يميل سواده الأعظم إلى تقديس الموروث، والخوف من كل جديد مستحدث، ويعتبره بدعة وضلالة، أم الصفوة فكانوا يسعون منذ إرهاصات النهضة الحديثة على يد حسن العطار في مصر، ورفاعة الطهطاوي ومدرسته، وبطرس البستاني وتلاميذه، وحسين الجسر وجماعته في الشام إلى التأليف أو التوفيق بين الجديد والتليد والدين والعلم، وكانت ثورتهم على معوقات النهضة بجناحيها، الأمر الذي جعلهم يقفون موقفاً عدائياً من الفلسفة المادية التي تطيح بنسقهم التوفيقي، وتستعدي الجمهور وتنفر الشبيبة من التجديد والإصلاح. لقد كانت وجهة خطابه متعصبة لفلسفة الغرب، يدعو لانتحال مبادئه النهضوية غير عابئة بثوابت الشخصيات وهوية الذات العربية الشرقية، ذلك فضلاً عن وصف الاحتلال الإنجليزي لمصر بأنه إحدى آليات المدنية، ولا ينقصه إلا ضبط سلوك جنده مع المصريين، لينخرطوا في الثقافة المصرية ويصبحوا جزءاً منها، وتأييده مد امتياز قناة السويس، واعتبار القناة مرفقاً عاماً، سوف يؤول بعد ذلك إلى الملكية الدولية. أما النسق الثالث الذي يمثل مشروعه الحضاري فيمكن إيجازه في هذه الآليات التي جعلها شرطاً لتحقيق غايات الخطاب، وهي عدم الفصل بين النظر والعمل في التفكير والسلوك، الأمر الذي يستلزم تقليص دور الفلسفة النظرية والمعارض الأدبية في برامج الدراسة، وإخضاع الخطط إلى المنطق التجريبي العملي، كذلك فصل الدين عن الدولة، وذلك في أمور السياسة والتعليم، ومنع رجال الدين من التدخل في شؤون الحكم وسن القوانين، وإلغاء البرامج الخاصة بالعقائد واللاهوت من المقررات الدراسية في المدارس، أي مدنية التعليم، مع السماح بإقامة كل دين مدارسه الخاصة على ألا تتكلف الدولة نفقات هذه المدارس. ودعا شميل إلى تربية الأطفال على مبادئ الحرية والإخاء والمساواة بين البشر، وفتح الباب على مصراعيه لتدفق الثقافة الغربية بما فيها من فلسفة علمية وعلوم، لتعم سائر نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربية والتعليم في الثقافة العربية الشرقية، والتأكيد أن التسامح والحرية وجهان لقيمة واحدة، وأنه لا فصام بينهما في الأمم التي تنشد التمدن، كذلك تحرير المرأة من قيد الجهل، وتأهيلها للمشاركة الإيجابية في بناء المجتمع الحديث، وذلك مع التسليم بأن المرأة لا يمكن مساواتها بالرجل، لأن طبيعتها البيولوجية والعقلية لا تؤهلها إلا لتكون معاونة للرجل ومكملة لمواطن عجزه، وأن المكان الأفضل لها هو البيت وتربية الأطفال.

مشاركة :