باتت الحاجة ماسة لتصحيح المسار، إذ ليس في الإمكان أسوأ مما كان، وليس في الإمكان الاستمرار على النهج الحالي. كل من تسول له نفسه أن يوجه اتهاماً، يوجهه. وكل من يقرر مغازلة أحدهم، يغازله. وكل من يفتي بتكفير فلان، يكفره. أن تفعل ذلك في بيتك أو في محل عملك أو في محيط إقامتك، فهو مقبول، إذ إن المحيطين بك قادرون على الرد القانوني أو الشخصي على افتراءاتك أو مبالغاتك، ولكن أن تفعل ذلك على الملأ أمام ملايين المشاهدين، فهو مرفوض تماماً، ولو لم يرفض فهو سلاح قاتل. ما إن أطلّ الأولون عبر التلفزيون وقضية المواثيق الأخلاقية والمعايير الإعلامية، وما يتعلق بها من حياد واحترام خصوصية واتباع المهنية تشغل البال. يدرسونها في كليات الإعلام، ويدربون الإعلاميين عليها، ويحاولون الحفاظ عليها قدر المستطاع، أو هكذا يقولون. لكنّ الانفلات الإعلامي في شاشات «الربيع العربي» أبعد ما يكون عن القضية الخلاقية أو المعايير الأفلاطونية المهنية. ويستوي في ذلك الكل، قنوات رسمية، وأخرى غير رسمية وما ينطوي تحتها من ليبرالية ودينية وحتى إعلانية. ساعات «اللت والعجن» تعدت كل المسموح، ومع دخول أوطان في حيز الخطورة، بات التلاعب بالمواطنين، وتوجيه مشاعر العداء، والنعرات الطائفية، أمراً خطيراً. وفي مصر التي تشهد مرحلة من أكثر المراحل خطورة في تاريخها، وهي المرحلة التي يلعب فيها الإعلام التلفزيوني دوراً محورياً في توضيح الحقائق أو قلب المعلومات، لا يجوز لمن يلعب هذا الدور، أن يعيد ترتيب الأوراق وفق انتماءاته الأيديولوحية أو قناعاته الدينية أو مبرراته الثقافية أو نعراته الطائفية ليهوي الوطن في حفرة عميقة لا تنقذه فيها قناة تلفزيونية موجهة أو إقليمية خائنة أو حتى محلية لا حول لها أو قوة. قوة الإعلام التلفزيوني ليست في حاجة إلى إثبات، بل هي في حاجة إلى قليل من الانضباط والإصلاح مع كثير من التنظيم وليس الرقابة. تعبئة جانب من الشعب ضد الجانب الآخر جريمة. لكنّ الجرائم الإعلامية، المتعمد منها والعارض، لم تتوقف من تلقاء نفسها، فالنفس أمّارة بالسوء، والشاشة أمّارة بالوحدة حيناً وبالتشتت أحياناً، وبالخبر حيناً وبالآراء أحياناً، وبالهدوء حيناً والفرقعة أحياناً. وحال الفرقة في مصر، والتشتت بين أبنائها، والالتباس في سياستها، تحتم الإسراع بما من شأنه أن ينظم العمل الإعلامي، من دون خنق للحريات أو قهر للأيديولوجيات، ولكن بوضع قواعد إعلامية وأخلاقية يتفق عليها الجميع حتى يكون الالتزام بها منطقياً وواجباً. وإذا كانت عمليات التحول الديموقراطي تحتم مقداراً من الانفلات، بما في ذلك على الشاشات، فإن استمرار الضرب في شاشات التلفزيون يؤدي إلى عواقب وخيمة، لأن الفتنة والتحريض والتكفير عبر الشاشات جريمة لا تغتفر.
مشاركة :