كانت جدَّتي كلما سمعت نبأ وفاة شاب تقول فورا «الله يساعد أمه». ما من مرة قالت بعفويتها وبساطتها ونقائها شبه المطلق «الله يساعد أباه»، أو أحدا آخر من الأهل. وفي وصفه لنزع الشاعر الألماني هاينرش هاينه، كتب الفرنسي تيوفيل غوتييه أن «الأم وحدها تتحمل مشهد الاحتضار». كتبت الزميلة فاطمة العبد الله في «النهار» الأربعاء الماضي مقالا عنوانه «إلى أخي الذي مات في سوريا»، هز مشاعر اللبنانيين، وتلقّى ما يزيد على 3 آلاف إشارة إعجاب (لايك)، وهو رقم فوق القياسي في الصحافة اللبنانية. كانت الناقدة الذكية تتحدث إلى زملائها منذ زمن عن شقيقيها اللذين يقاتلان في سوريا إلى جانب حزب الله، وتعبِّر عن رعبها مما قد يحدث لأمها إذا أصيبا بشر. كما كانت تروي أن أمها تمضي الليل تتفقد سريرَي الشابين لترى إن كان أحدهما قد عاد. منذ أشهر شاهدت في الصحف صورة سيدة من مؤيدي حزب الله «تزف» ابنها الذي قتل في سوريا، ويقول التعليق إنها سوف تفرح بإرسال المزيد من الأبناء إلى هناك. خامرني شعور غامض: هل ثمة أم على وجه الأرض تفرح لمقتل ابنها، مهما كانت قضيته، أم أن الأم الحقيقية هي التي تقول عنها فاطمة «سأخبرك عن أمنا كيف تتحطم وكيف يتمزق الفؤاد. منذ الفجر وهي تملأ المنزل شوقا إليك. أمّنا يا أخي تصبح غصَّة، وأجزم يا أخي أنك بقيتَ خائفا من هذه اللحظة»؟ اختارت فاطمة العبد الله عنوان «أخي الذي مات» موضحة أنها لن تقول الذي «قتل» أو «استشهد» لأن فقد حسين العبد الله في العائلة هو موت لا تخفف من وقعه التعابير المزوَّقة. الظلم الذي يوقعه المقاتلون والانتحاريون بأمهاتهم وأمهات الذين لا يعرفون لهم اسما أو وجها، أصبح عاما في لبنان. فريقان لا يتبادلان سوى القتل والموت ونشر الأحزان. الردود الفورية على نعي فاطمة لشقيقها حسين كانت هي الرأي الصادق بين اللبنانيين حول تنازعهما في سوريا. لقد تحوَّل لبنان إلى ساحة مفتوحة من الجنازات المتقابلة والقتل المتبادل، ناهيك بمشاعر الحقد والكره والثأر بين جماعات يفصل بينها شارع واحد، وأحيانا لا يفصل بينها سوى جدران المنازل التي كانت تجمعها منذ السنين. عندما اتصلت بفاطمة العبد الله من نيويورك أعزيها وجدت ما كنت أتوقع: حالة من الانهيار والبكاء. ولم أقوَ على تذكيرها بأن ما تخشاه قد حل بكل قسوة. تمنيت لها أن يعود الشقيق الآخر إلى أمه. وتمنيت أن يعود لبنان كلّه من الجحيم السوري المفتوح، وأن يتذكَّر العرب، في كل مكان، عُمق ما يزرعونه من أسى في قلوب الأمهات. لكن هذه مجرد أمنية ستبدو فكرا ساذجا للأم التي قالت إنها تفرح بتقديم أبنائها في سوريا.
مشاركة :