اليمين الأميركي والصراع على الجمهورية 1 - 2

  • 10/13/2016
  • 00:00
  • 42
  • 0
  • 0
news-picture

< وضع عالم الاجتماع ماسلو ترتيباً هرمياً للحاجات البشرية، إذ وضع خلاله الحاجة الأمنية بأشكالها المختلفة، ومنها الأمن الوظيفي، في مرتبة أعلى من الحاجة الاجتماعية، والحاجة الأمنية هي الحاجة الأقوى لدى الإنسان، وتأتي مباشرة بعد الحاجات الأولية كالطعام والشراب، والأكثر قدرة على حث آليات الدفاع الذاتي لدى الفرد والجماعة، كونه من أسباب الوجود والاستمرار للنوع وليست من أسباب الرفاهية. شهدت فترة الخمسينات والستينات ازدهاراً اقتصادياً كبيراً للمجتمع الأميركي، في الوقت الذي كان الاقتصاد الأميركي يمثل أكثر من 25 في المئة من الاقتصاد العالمي، في حين كان التعداد السكاني للولايات المتحدة حوالى 3 - 4 في المئة من سكان العالم، وبالتالي تمتع الأميركيون بمستوى من الرخاء لا تضاهيه أية دولة أخرى، وانتشر معه مفهوم الليبرالية إلى أغلب شرائح المجتمع، ومعه مفهوم المساواة بين البشر، وانتشر مفهوم الإلحاد والابتعاد عن الدين لمصلحة الحلم الأميركي، لكن في الوقت ذاته اتجهت شريحة أصغر نحو المزيد من التدين والالتزام المحافظ، وبخاصة في ولايات الجنوب، ما أدى إلى تراجع الطبقة الوسطى من أصحاب المعتقدات المعتدلة، وساد نموذج الرفاهية الأميركي والغربي، الذي أخذ طابعاً انحلالياً، على النماذج الأخرى في العالم خلال أغلب القرن الـ20، وتُوّج بانتصار أميركي في الحرب الباردة، سارع على أثره المفكرون في الغرب بادعاء الانتصار النهائي للحضارة الغربية، إلا أن نجاح النموذج الغربي حمل أسباباً متعددة للنجاح، لكنه في الوقت نفسه حمل بذور التراجع، نتيجة كثير من العوامل المتراكمة. في السبعينات، بدأ التيار الديني في العودة بقوة إلى الساحة، اعتماداً على فشل السياسات الاقتصادية والعسكرية والدولية الليبرالية في عهد الرئيس الديموقراطي جيمي كارتر، ما أدى إلى تراجع دور الولايات المتحدة لمصالح صعود الاتحاد السوفياتي، ما دعا اليمين الأميركي المحافظ لإطلاق الضوء الأحمر واعتبار الوضع يهدد الولايات المتحدة، ليس فقط سياسياً، بل على صعيد منظومة القيم الأميركية؛ كالحرية الدينية والشخصية واقتصاد السوق، ما أوصل في أوائل الثمانينات، الرئيس رونالد ريغان مرشح الحزب الجمهوري، الذي يمثل يمين الوسط ويحمل صلات مهمة بالتيار الديني، إلى البيت الأبيض، ويحمل سياسات مواجهة مع الشيوعية في الوقت الذي كان فيه السوفيات في نهاية العهد الإمبراطوري، لأسباب اقتصادية، وانتهى المشهد بانتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة. في نهاية التسعينات وبداية الألفية الجديدة تصدرت الولايات المتحدة المشهد السياسي والاقتصادي العالمي، ولكن بعد فترة بدأ تراجع نموذج الرفاهية الأميركي والغربي أمام مجموعة كبيرة من التحديات، سواء الخارجية منها، كظهور قوي اقتصادية صاعدة متعددة بالغة القوة والنجاح، اعتماداً على تطبيق النموذج الاقتصادي الغربي ذاته، ما أدى إلى انخفاض حصة الاقتصاديات الغربية من الاقتصاد العالمي، وبالتالي قوة حضورها السياسي وقدرتها التنافسية أو أسباب أخرى تتعلق بالاستراتيجية العالمية القائمة على التوسع العسكري والاقتصادي اعتمد على الاستدانة من دون حدود، وأدى دخول الولايات المتحدة في سلسلة حروبا، في أفغانستان ثم العراق، إلى تآكل الاقتصاد وغرق الدولة في الديون، وتضاف إلى ذلك أسباب أخرى خطرة، مثل زيادة الهجرة الدولية إليها، ما أدى إلى تغيير تدريجي في تركيبة المجتمع. ففي بعض المدن الكبرى مثلاً يشكل المولودون خارج أميركا حالياً 40 - 60 في المئة من السكان، إضافة إلى توزيع السلطة الداخلية وصعود طبقات محدودة العدد تستحوذ على قدر كبير من الثروة، وبالتالي مراكز القرار السياسي والاقتصادي، ما أدى إلى ظهور «أوليجاركية» حقيقية تمثل أقلية تحتكر الثروة والسلطة السياسية عبر منظومة الأحزاب، وتراجع ليس فقط القدرة الاقتصادية للطبقة العاملة، بل في قدرتها على تطبيق معتقداتها السياسية والاقتصادية أمام المهاجرين الجدد والأقليات غير البيضاء الأكثر إنتاجية وقدرة على العمل، في ظروف تشوبها الدونية، ويشعرون بالتمييز عن البيض في المكافآت والترقيات. هذه التغيرات الاجتماعية قادت إلى مجتمع أكثر تعددية ثقافياً ولغوياً مما كان سابقاً، شهدت ظهور «نوعية جديدة من الغالبية» مكونة من تلك الأقليات العرقية والدينية المحلية من الشباب الأميركي، الذي نشأ في بيئة أكثر حرية وتعددية بعيدة عن العنصرية، وكذلك المهاجرة، وهي الغالبية، يتوقع أن تصل قوتها إلى 60 في المئة من الناخبين، ذهبت في انتخابات 2012 لمصلحة باراك أوباما، ما شكل صدمة خطرة للتيارات الدينية والعنصرية المحافظة من البيض ذوي الأصول الأوروبية، الذين يَرَوْن أنفسهم أنهم مؤسسو الحضارة الأميركية، والذين شعروا ليس فقط بفقدان حضورهم السياسي، بل إن المهاجرين سيتحولون إلى غالبية ديموغرافية خلال العقود القليلة المقبلة، بسبب عاملي الهجرة وزيادة نسبة المواليد بين الملونين عن نسبتها لدى البيض، ما يعني أنهم سيفقدون حضارة (أميركا البروتستانتية البيضاء) التي أسسها أجدادهم. مما زاد الطين «بلة» هو الأزمة المالية في 2008، وهي ظهور شريحة من المحافظين اجتماعياً من البيض، ومن هم في منتصف أعمارهم، وينتمي معظمهم إلى الطبقة ما دون الوسطى، وهؤلاء لم يكمل معظمهم التعليم الجامعي ويتركزوا في الولايات الجنوبية والولايات ذات الاقتصاد القديم والتقليدي، مثل الزراعة والمهن الصناعية البسيطة والمتوسطة، الذين انهارت أوضاعهم المالية مع الانهيار المالي، ولم تتحسن أحوالهم المالية في شكل مطرد عند تحسن الاقتصاد، وهم يتسمون بعقلية قومية نوعاً ما مستاءة من التحولات الاجتماعية المذكورة نفسها، ولا يملكون ميزة تنافسية تعليمية أو خدمية متقدمة ملائمة للاقتصاد الحديث، كما أنهم، بسبب الوجود القوي للمهاجرين، بدؤوا يشعرون بأنهم منبوذون في بلدهم الأصلي. من أكبر المشكلات التي تواجه هذه الطبقة هي تركز السلطة في يد المؤسسة، وهي الحزب الجمهوري، وتفضيل الحزب لترشيح الشخصيات التي تملك كاريزما وعلاقات سياسية وتعتبر معتدلة سياسياً ودينياً، تمثل يمين الوسط، ويدعم الحزب بقدراته الإعلامية الهائلة هؤلاء المرشحين في الانتخابات، ما أعطى دوراً كبيراً للمال السياسي والعلاقات الأولوية في القدرة على النجاح في الانتخابات، ما زاد في إحساس هذه الطبقة بالتهميش السياسي، ثم انعدام ثقتهم بمؤسسات الدولة الأميركية والأحزاب السياسية، بما فيها الحزب الجمهوري الذي ينتمون إليه، كما مثل انتخاب الرئيس أوباما ذي الخلفية الليبرالية والجذور الأفريقية صدمة هائلة لم يتمكنوا من استيعابها… يتبع     * كاتب سعودي.

مشاركة :