اليمين الأميركي.. والصراع على الجمهورية 2 - 2

  • 11/3/2016
  • 00:00
  • 30
  • 0
  • 0
news-picture

< منذ انتخاب الرئيس باراك أوباما كنت أشاهد محطات التلفزيون الأميركي، وهي الفترة التي ظهرت فيها حفلات حزب الشاي Tea) Party)، وهي تيارات يمينية كانت تتمتع بتغطية قوية من الإعلام المحافظ، خصوصاً قناة Fox News اليمينية، وأحسست بالتشاؤم من هذه المجموعات التي سيكون لها الفضل الأكبر في صعود حركة الاحتجاج اليمينية البيضاء التي شنت حملات لا تخلو من العنصرية ضد الرئيس اوباما وخلفيته الليبرالية والأفريقية والإسلامية ومفهوم العدالة الاجتماعية الذي يدعو إليه مثل نظام الرعاية الصحية، وتشن حملة قاسية ضد توسيع دور الحكومة وزيادة الضرائب وتبدي مخاوف كبيرة من تنامي عجز الموازنة الأميركية، الذي يرونه مهدداً لمستقبل البلاد، وهذه المجموعات هي التي ستقود المشهد السياسي الذي سيصعد على أكتافه أشهر شخصية احتجاجية غوغائية وهي شخصية المرشح الرئاسي دونالد ترامب. أثارت شعبية ترامب انزعاج منظومة الحزب الجمهوري، فهو قضم حصة من ناخبي الحزب الجمهوري، ولكنه يحمل مبادئ تتناقض إلى حد ما مع البرنامج الجمهوري التقليدي، فهو مثلاً ليس ضد الإلحاد ولا ضد توسيع دور الحكومة ولا الإجهاض ويعادي الشركات الكبرى واتفاقات التجارة الدولية، ويحمل عداء للمهاجرين ويطالب الدولة بإصلاح البنية التحتية للبلاد، وتطوير حياة الطبقة العاملة (من البِيض). يرى خبراء الاجتماع السياسي أن هذه الظاهرة هي ما يسمى المُنتجية اليمينية (Right Wing Producerism)، وهي تؤمن بأن المجتمع ينقسم إلى «صانعين منتجين» و«آخذين»، وتحاول المنتجية اليمينية تعبئة من تصفهم بالمنتجين للثروة وتحريضهم ضد الطفيليات الشريرة القابعة على ضفتي المجتمع، ففي الأعلى طبقة المصرفيين واليهود والسماسرة والشركات الكبرى والأغنياء الذين يتوارثون الثروة من دون الحاجة للعمل وهي الطبقة الغنية التي يشيع (المنتجون) بأنها تمتص دماء الطبقة العاملة. أما على الضفة الأخرى وهي قاع المجتمع فيقبع ما يعتبرونه بالطفيليات مثل الفقراء والملونين والمهاجرين والمثليين ومن تصفهم بالكسالى الذين يتقاضون إعانات اجتماعية من دون استحقاق، ويكبدون المجتمع تكاليف رعاية صحية وإعانات لا يستحقونها، وبالتالي يجد «المنتجون» أنفسهم محاصرين بين هاتين الضفتين ويحملون ثنائية «الذات» وأي مجموعة أخرى يمكن وصفها بأنها «الآخر». كما تعادي المنتجية الشركات الكبرى ووول ستريت وقطاع التمويل والبنوك الدوليين والسياسيين من المنظومة ومسؤولي الحكومة أو النخب «الأوليغاركية» ويدافعون عن الوطنية الاقتصادية. وتشمل هذه الحركة تيارات دينية كبيرة تعتمد على نظرية المؤامرة واستخدام الشيطنة للآخر كأدوات سياسية ضد خصومها، بحيث تنزع عنهم الآدمية وتتهمهم بأنهم السبب في الشر للطبقة البيضاء العاملة، وتمتلك هذه الفئة نزعة سلطوية قومية متشددة وهي التي تمثل القاعدة المثالية للنقابات العمالية التي صعدت على أكتافها الأحزاب النازية والفاشية في الماضي. على رغم أنهم تقليدياً من الحزب الجمهوري، إلا أنهم لا يعترضون على دولة الرفاه التي يعترض عليها الجمهوريون عادة، بل هم حريصون على رواتبهم والتأمين الصحي وغيرها من مميزات «دولة الرفاهة،» لكنهم يعترضون فقط على إعطائها للمهاجرين والملونين الذين يروهم غير مستحقين لها، كما حدث مع برنامج «أوباما كير،» إذ عمد الرئيس أوباما لتعديل برنامج «ميديكير» التقليدي لمصلحة برنامج جديد لمصلحة الشرائح التي لم تكن تتمتع بتأمين صحي، وهي شرائح شكل نسبة كبيرة منها مواطنون مولودون بالخارج، وبالتالي ليسوا مصنفين كمواطنين أميركيين، أي أن نصف المستفيدين من «أوباما كير» كانوا «أجانب» في نظرهم، إضافة لهؤلاء كون نسبة كبيرة منهم فقراء ملونين مما يعتبره «المنتجون» استنزافاً للثروة الوطنية، وكانت فوكس نيوز من أكثر من شن حملات متواصلة ضد برنامج «أوباماكير»، ومن ثم ما يجمع هؤلاء ليس برنامجاً سياسياً ولا حتى هموم اقتصادية، ولكن شعور جمعي بالخوف على مستقبل وهوية بلادهم الثقافية، والإحساس بالخذلان من الطبقة السياسية التي تجمدت أفكارها في الزمن منذ عقود، وبالتالي يعتبرون أنفسهم متمردين على أوضاع الحزب الجمهوري ويريدون استعادة قيم الجمهورية. يواجه الحزب الجمهوري تحدياً كبيراً في مواجهة الظاهرة الخطرة التي خرجت من بين صفوفه والتي رعاها الإعلام اليميني الذي سوق لهذه المجموعة على أنها تمثل «الوطنية الأميركية»، هذه الحركة تسببت في انقسام خطر في الحزب التي يتكون ناخبوه من ثلاث فئات، الأولى: يمين الوسط وهي الفئة المعتدلة التي يخرج منها السياسيون الجمهوريون عادة. والثانية: البيض متوسطو ومحدودو الدخل. والثالثة: المحافظون المتدينون. وتمثل الفئة الثانية أغلب ناخبي ترامب ويمثلون حوالى 35 في المئة من ناخبي الحزب الجمهوري، وتمثل مطالبه العنصرية مشكلة خطرة بسبب تناقضها مع القيم الأساسية للجمهورية وهي وجهة نظر أقلية لن تستطيع كسب الانتخابات، والمشكلة الثانية التي يواجهها الجمهوريون هي عدم وجود مرشح من يمين الوسط التقليدي المعتدل، فالمنافس الجمهوري لترامب كان السيناتور تيد كروز الذي سحب ترشيحه وهو محافظ يختلف برنامجه التقليدي بشدة مع برنامج ترامب من حيث رفض الإلحاد والإجهاض، وتأييده لاتفاقات التجارة الدولية التي يرفضها ترامب، ما أدى لانقسام حاد داخل الحزب دفع الحزب الجمهوري، لأن يتولى محاولة إسقاط ترامب المصنف على أنه مرشح (احتجاجي)، وأعتقد أن ليست لترامب قدرة على كسب الانتخابات، وكذلك لأن انتخابه سيكون مشكلة كبرى تهدد أساس الدولة الأميركية ذاتها، أو سيجعل الحزب ينحسر ليصبح حزب أقلية عنصرية غير قادرة على كسب أي انتخابات في مواجهة الأغلبية الليبرالية الجديدة، ما دعا البعض للقول إن انتخاب ترامب، لو حدث، سيكون آخر رئيس جمهوري. لمقاومة حملة الجمهوريين لإبعاده، لجأ ترامب إلى حث فئات جديدة من المجتمع الأميركي لم تكن تصوت في الانتخابات في السابق، خصوصاً من شرائح البيض من القرى والمدن الصغيرة على التصويت لمصلحته، مستفيداً من صدمة الشعب عموماً بتجاهل المؤسسة لهم وتصعيد المخاوف من الإرهاب الإسلامي، ومن سيطرة الملونين والأغنياء على الدولة، وتحريك نزعة السيطرة والانتصار لدى اليمين الأميركي باتهام السياسات المهادنة للرئيس اوباما بأنها السبب في ضياع هيبة ومكانة الولايات المتحدة لمصلحة تمدد روسيا وإيران في أوروبا والشرق الأوسط، ما يمثل تهديداً خطراً للمصالح الأميركية، ويتعهد باتباع سياسات مناهضة لهذا التوسع. سواء كسب دوناد ترامب الانتخابات أم خسرها ستكون الولايات المتحدة أمام تحديات جديدة ستظهر آثارها في كل عملية انتخابية مستقبلية، سواء للسلطة التنفيذية أم السلطة التشريعية، لأن الحركة الشعوبية ستكون أسست لنفسها موقعاً ثابتاً في المجتمع لن تتنازل عنه، وستكون ورقة مهمة في صناعة المستقبل الأميركي في القرن الـ21.

مشاركة :