فكرة قتل الأب ليست جديدةً، فهي معروفةٌ منذُ أنْ اشتغل فرويد على عقدة أوديب، وبيَّن كيف أنَّ الرغبات الداخليَّة المشحونة للطفل، في قتل الأب «السلطة، المهيمن»، مسألة طبيعيَّة في فترة من فترات العمر. يرى الطفل في والده عدوًّا حقيقيًّا، سرق منه أمَّه، وعليه أنْ يستعيدها. طبعًا، مع الزمن يدخل العقل كمُنظِّم لهذه العلاقة، ووضعها في سياقها الطبيعي. استعارت الفنون العالميَّة، ومنها الأدب، فكرة قتل الأب الرمزي، الذي استولى على النوع، وتربَّع عليه، وأصبح من الضروريّ احتلال مكانه حتَّى لا يبقى الوحيد مستمرًا في الأبديَّة، لأنَّ الفنون هي رمز للأبديَّة والخلود. يموت الجسدُ ويتحلَّل، ويستمر وجود الفنان والمبدع عبر التاريخ فينا ومعنا. مات رسَّامو صخور الهقار البدائيَّة، الذين نقشوا حياة المجتمع الإنسانيِّ الأوَّل، مات الغريكو، ودولاكروا، ورامبرانت، وبيكاسو، ودالي، والواسطي، ومحمد راسم، ومحمد خدة، وغيرهم، لكنَّهم يعيشون معنا، كأنَّهم أبناءُ عصرنا. مكتباتنا اليوم مؤثَّثة بالأموات. تكاد تتحوَّل إلى مقابر، لكن لا أحد منَّا، عندما يسحب كتابًا لهومير، أو سيرفانتس، أو المتنبي، أو بلزاك، أو ديكنز، أو طه حسين، أو غسان كنفاني، أو نجيب محفوظ، أو كاتب ياسين، يمر بذهنه -ولو للحظة- أنَّهم لم يعودوا بيننا، والكثير منهم منذ قرون. فكرة عزل الأب المهيمن، أو تحييده، أو قتله، تحمل في معناها الجوهريّ تقاسم مساحات الأبديَّة التي بدأت تضيق لكثرة مَن يبرزون في هذا المجال، في ظلِّ الانفجار الإعلاميِّ والتواصليِّ، وفي ظلِّ عالم أصبح معقَّدًا تحكمه السوق ورأس المال، البيع والشراء. وفي هذا يجد الباحثون عن الأبديَّة من الكتَّاب والفنانين الشباب، رغبةً في القتل، وصعوبة في فرض النفس والاختراق تمهيدًا لخوض معركة الأب. لأنَّ واحدة من قواعد قتل الأب -وربما أهمّها- هي أن تكون أقل شيء في مستوى الأب إبداعيًّا، وتجاوزه أيضًا. أن تخلق مساحة تدفع بك إلى الأمام بقوة. قتل الأب هي مواجهة رمزيَّة من الابن أكثر منها من الأب، لأنَّ هو مَن عليه أن يُثبت قوَّته الإبداعيَّة. الأبُ مرتاحٌ في المساحة التي شغلها وحققها بامتياز. الأبُ وُجدَ في النهاية ليسهر على الأبناء، وحمايتهم، ومنحهم فرصة الكِبَر، قبل أن يتحمَّلوا همَّ مسؤوليَّة العائلة، لأنَّ قانون الطبيعة يريد ذلك. لكن عليهم أن يكونوا قادرين على إنهاء فاعليَّته وتعويضه؛ لأنَّه لم يعد قادرًا. وهذا طبيعي جدًّا، وإِلاَّ ستتوقف الحياة على حافة جيل، وينتهي كلُّ شيء. لكن هذا الأب، أمام الفتوحات العلميَّة والتكنولوجيَّة، أصبح يعيش زمنًا أطول، أيّ أنَّ قدراته الإبداعيَّة تستمر زمنًا أطول؛ ممَّا يجعل مهمَّة قتل الأب صعبةً جدًّا، إلى درجة أنَّ المشكلة لم تعدْ تُطرح إلاَّ عندنا. طبعًا، المعارك الأدبيَّة حول هذا الموضوع كانت حادَّةً في الغرب، في زمنٍ ما. لم تُبنَ جوهريًّا على شتمِ الأبِ، على الرغم من قسوتها. لا محدد في هذا السياق إلاَّ النص القاتل. مارسيل بروست لم يضيِّع وقته في الشتيمة لقتل الأب المعطل له، ولكنَّه كتب نصًّا قاتلاً: في البحث عن الزمن الضائع، فغيَّر نظام الكتابة كليًّا أمام التيار الكلاسيكي، الذي ظلَّ يتربَّع على عرشه بلزاك، صاحب الكوميديَّة الإنسانيَّة. وبدرجاتٍ أقل إميل زولا، صاحب الموسوعة الروائي ليروجون مكار التي تتبعت عائلته في مختلف تحوّلاتها عبر العصر. فشكلت الوجدان الفرنسي بقوّة، وهو ما لم يستطع التاريخ فعله. كاتب ياسين أزاح محمد ديب الغارق في الكلاسيكيَّة الأدبيَّة الفرنسيَّة البالزاكيَّة، بإبداع نصٍّ كبيرٍ هو نجمة، لم يربك الأدب الجزائريّ وحده في معماره ولغته، ولكن الأدب الفرنسي أيضًا. جمال الغيطاني قتل نجيب محفوظ رمزيًّا، لا بالانتقاص من قيمته، ولكن بكتابة نص الزيني بركات، الذي وضع التقليد الكتابي المحفوظي، الذي بقي رهين كلاسيكيَّة زولا، في حالة إحراج. ويمكن أن نقيس على ذلك بأمثلة كثيرة تزخر بها الثقافة الإنسانيَّة. في كل الأحوال، ظل ميراث الأدب محترمًا، وتُعاد قراءته في كل زمن. بل إنَّ فرنسا ابتدعت فكرةً عظيمةً هي سلسلة كتب الثريا la pléiade، التي منحت لنصوص الآباء فكرة الخلود والأبديَّة، إذ تمَّ نشرها بأجمل ما يكون. ليس ذلك إلاَّ احترامًا لما أنجزه الآباء. الإبداع في النهاية لا يُقاوَم إلاَّ بإبداع أفضل، أو ربما أكثر قوة. لأنَّ الأب لن يوضع في المتحف بسهولة، في زمن تغيّرت قيمه وحساباته وآفاقه، ثمَّ إنَّ الأبديَّة تتَّسع للجميع إذا ملكوا ما يُدخلهم هذه الجنة الافتراضيَّة. لهذا الصراع الطبيعي والإنساني، روّاده من المتفهمين له، وأقطابه أيضًا من الفاشلين الذين حوَّلوه إلى حربٍ خاسرةٍ ضد كل من خرج من الدائرة، لإخفاء عجزهم. عندما لا يصلون الى إبداعيَّة الأب، ولا إلى سلطته الرمزيَّة، تفتح نيران حرب سرعان ما تأكل من أشعلها. وتبدأ عمليَّة البحث اليائسة عن خفايا هذه الشهرة أو تلك، واختلاق القصص فقط لتدمير سلطة الأب، وتعويضها بالفراغ -لأنَّهم لا يملكون سلطة بديلة- عجز عن إنتاج النص القاتل المغيِّر للمواقع.
مشاركة :